لم يكن خصوم ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، من فلول النظام الإمامي وأعوانه، قادرين على مجابهة الموجة الجمهورية الصاعدة بالسلاح أو بالحجة، فآثروا أن يستعينوا بسلاح آخر لا يقل خطورة لاسيما في وعي الأجيال وذاكرة التاريخ: الدعاية السوداء.. ففي خضم ستينيات القرن الماضي، بينما كان اليمن يعيش معركة وجود فاصلة ضد مشروع استبدادي ظلامي جثم على صدره قرونا طويلة بالحديد والنار، لجأت القوى الإمامية المهزومة إلى نسج روايات ملفقة عن حلفاء الثورة، وبالأخص القوات المصرية التي جاءت لنصرة النظام الجمهوري الوليد.
ومع عجزهم عن حسم المواجهة عسكريا، لجأوا إلى بثّ إشاعات متكررة تزعم أن الطيران المصري استخدم أسلحة كيماوية ضد المدنيين في بعض مناطق القتال. وقد جرى تضخيم هذه المزاعم وتدويرها في الإعلام العربي والدولي المعادي للرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر آنذاك، لتتحول إلى أداة سياسية موازية لساحة المعركة، هدفها تشويه صورة الدعم المصري، وزعزعة ثقة اليمنيين بجمهوريتهم الناشئة، وقطع صلات الثورة بحلفائها الإقليميين.
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، وبينما تعيش أجزاء من البلاد حالة ردة مسلحة يقودها الامتداد المعاصر للإمامة الكهنوتية، تُستعاد هذه الإشاعات نفسها، وكأن التاريخ يعيد إنتاج أدواته البالية على ألسنة أحفاد تلك القوى التي عجزت في الماضي عن مواجهة الثورة اليمنية بالبرهان والسلاح الشرعي.
بدأت قصة "الكيماوي" في اليمن عام 1963 مع أولى الحملات التي شنها الطيران المصري على مواقع المقاتلين الإماميين في صعدة وحجة. ومع اشتداد المواجهات وتوسع مسرح العمليات، ظهر خطاب إعلامي معادٍ لعبد الناصر، خصوصا في منابر غربية بريطانية بالدرجة الأولى، وأخرى عربية رجعية، ركّز على اتهامه باستخدام غازات سامة. ففي 31 يناير 1967، أصدرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بيانا أعرب فيه عن "قلق بالغ" إزاء القصف الجوي و"الاستخدام المزعوم للغاز السام"[1]. الترجمة: النص الأصلي: (تعرب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جنيف عن قلق بالغ بشأن الغارات الجوية على السكان المدنيين و"الاستخدام المزعوم للغاز السام" مؤخرا في اليمن والمناطق المجاورة.) "The International Committee of the Red Cross in Geneva is extremely concerned about the air-raids against the civilian population and the alleged use of poisonous gas recently in the Yemen and the neighbouring regions."
هذا التعبير الحذر يعكس بوضوح غياب أي تأكيد ميداني أو مختبري على تلك المزاعم، إذ لم يتضمن البيان أدلة علمية أو عينات تثبت وجود مواد كيماوية.
لاحقا، كشفت وثائق الأرشيف الوطني البريطاني التي نشرتها صحيفة The Guardian أن وزارة الخارجية البريطانية، عبر إدارة البحث الإعلامي (IRD)، أدارت حملة دعاية سوداء ضد مصر، تضمنت تلفيق وثائق منسوبة زورا [2] إلى جماعة الإخوان المسلمين: الترجمة: النص الأصلي: (أدارت إدارة البحث الإعلامي (IRD) في وزارة الخارجية البريطانية حملة دعاية سوداء ضد مصر الناصرية، زورت خلالها وثائق نُسبت إلى جماعة الإخوان المسلمين تتهم مصر بتنفيذ هجمات بأسلحة كيماوية في اليمن.) "The Information Research Department (IRD) of the Foreign Office orchestrated a black propaganda campaign against Nasser’s Egypt, forging documents attributed to the Muslim Brotherhood which alleged chemical weapon attacks in Yemen." تلك الحملة لم تقتصر على وثيقة أو إشاعة، بل شملت روايات مفصلة عن "الهجمات الكيماوية" جرى تمريرها إلى صحف عربية وغربية بهدف تأليب الرأي العام ضد التدخل المصري في اليمن [3] .
الترجمة: النص الأصلي: (كان أحد الأهداف الرئيسية لإدارة البحث الإعلامي في الشرق الأوسط هو تشويه صورة ناصر من خلال تصوير التدخل المصري في اليمن على أنه وحشي وينتهك المعايير الدولية، بما في ذلك الادعاء باستخدام الغاز السام.)
"One of the IRD's main objectives in the Middle East was to discredit Nasser by portraying Egyptian intervention in Yemen as brutal and in violation of international norms, including the alleged use of poison gas."
قاد هذه الحملة الإعلامية في الـIRD شخصيات بارزة مثل نورمان راندل، الذي أشرف على صياغة وتحرير البيانات الموجهة للشرق الأوسط، وتوم ليتل الذي تولى إنتاج النصوص بالعربية وتمريرها للصحف، ورينهام ريكيتس الذي نسق الجهود مع جهاز MI6 والملحقين الإعلاميين في المنطقة، ودونالد مكنتاير الذي عمل على التواصل مع المراسلين وترتيب تغطيات تخدم الرواية البريطانية[4].
الترجمة: النص الأصلي: (أشرف نورمان راندل على صياغة المواد باللغة العربية، وأعد توم ليتل هذه المواد ومررها إلى الصحف العربية، بينما نسق رينهام ريكيتس مع جهاز MI6، وتولى دونالد مكنتاير التنسيق مع المراسلين.)
"Norman Randle oversaw the drafting of Arabic-language material, Tom Little produced and passed it to Arab newspapers, while Renham Ricketts coordinated with MI6 and Donald McIntyre liaised with correspondents."
هذه الأسماء لم تكن مجرد أدوات بيروقراطية، بل عناصر محورية في توجيه الرأي العام وتغذية ماكينة الحرب الإعلامية ضد مصر واليمن الجمهوري، ما يضع مزاعم الكيماوي في سياق صراع استخباراتي وإعلامي أوسع ضمن الحرب الباردة.
وعلى امتداد سنوات الحرب تلك، لم يظهر أي دليل ميداني قاطع يثبت أن القوات المصرية استخدمت غازات محظورة، حتى المنظمات الدولية التي وصلت إلى مناطق النزاع، ومنها فرق الصليب الأحمر، لم تقدم تقارير تؤكد وقوع هجمات كيماوية.. في المقابل، استثمر الإعلام المناوئ للرئيس عبد الناصر في تكرار تلك المزاعم وتدويرها حتى تحولت إلى "رواية شائعة" في بعض الكتابات السياسية، رغم غياب السند العلمي والشهادات الموثقة[5].
إن قراءة هذا الملف في سياقه التاريخي تكشف أن معركة "الكيماوي" لم تكن مجرد جدل حول سلاح محظور، بل جزء من صراع سياسي وإعلامي لإضعاف الثورة اليمنية ونظامها الجمهوري وعزلها عن حلفائها التاريخيين. ومثلما استخدمت الإمامة في الماضي خطاب التخويف والتحريض لتشويه خصومها، فإنها اليوم تعيد إنتاج الأسلوب نفسه عبر تضليل متعمد، بينما تقود انقلابا دمويا مزّق البلاد وأعادها إلى مربع الفوضى والانقسام. إن المقارنة الحقيقية تقتضي النظر بين تاريخ موثَّق لجرائم الإمامة ضد اليمنيين عبر قرون من القهر والتمييز العرقي، شاهدا على واقع الظلم والاستبداد الذي عاشته البلاد، وبين رواية إعلامية وُلدت في غرف الدعاية السوداء ولم تجد ما يسندها من أدلة ميدانية.. وما يعيشه يمن اليوم من تفكك وانقسام وجمود في الحياة العامة بفعل الانقلاب الذي يقوده أحفاد الإمامة، يشكّل الدليل المادي المباشر على أن الخطر الفعلي، الذي يتجاوز أي سلاح كيماوي أو نووي، يكمن في سلاح الدمار الشامل المتمثل في السلالية والعصبية الكهنوتية، التي تستعيد أدوات القمع ذاتها وتعيد إنتاج الاستبداد والتفكيك تحت شعارات جديدة.