اللواء الأبارة... أيقونة التضحية وحكاية الصدق المنسي في تاريخ اليمن الحديث

في تاريخ الشعوب، تتوارى أحيانا أعظم البطولات خلف الضجيج السياسي وتيارات النسيان المتعمد. 

غير أن اسم اللواء أحمد يحيى غالب الأبارة، القائد العسكري الفذ، سيظل محفورا في ذاكرة اليمن الحرة، ليس فقط كضابط مهني وعقائدي، بل كرمز استثنائي لحالة نادرة من النقاء الوطني والمشروع التحرري الصادق.

طبعا لم يكن اللواء الأبارة قائدا عابرا في لحظة فوضى، بل كان أول ضابط يضع قدمه على رمال العبر في يناير 2015، حين كانت البلاد تعيش انهيارا غير مسبوق لمؤسسات الدولة، وكان الضباب يلف المواقف. 

جمع من تبقى من ضباط الجيش الوطني، وجاء برجال من بلاده، ريمة، تلك المحافظة التي لا تتقن الزيف ولا تتاجر بالدم.  كون كتائب وسرايا، لا مرتزقة ولا مغاوير موضة، بل جنودا يحملون عقيدة جمهورية وطنية نقية، صنعوها من وجع السنين ومن خيانة النخب.

لكن في لحظة غدر، كان فيها الانتماء الوطني عبئا، وجهت طائرات التحالف ضربة قاتلة لمعسكر العبر.  وكانت الصدمة الكبرى لنا. نعم.. قُصفت الكتائب وسقط أكثر من 120 شهيدا، من بينهم الإبارة نفسه. كان ذلك اليوم، كما وصفته، لحظة قتل لعقيدة وطنية كانت يمكن أن تغير مسار الحرب. بل كان قصفا استهدف المعنى قبل الأجساد، واستهدافا مباشرا لمشروع وطني بديل لا يقبل الارتزاق ولا يقبل الوصاية.

ومن رحم تلك الفاجعة، واصلت ريمة تقديم دمها في صمت.  خمسون شابا من أبنائها أقسموا أن يفكوا حصار مأرب في يونيو من نفس العام، واقتحموا "تبة المصارية" ببنادقهم وذخيرتهم البسيطة. و استُشهد أغلبهم، ومن بقي، حمل بندقيته مجددا وشارك في اقتحام جبال صلب في نهم. حتى قال القائد خالد الأقرع: "ما فيش أرجل من مقاتلي ريمة". 

ورغم ذلك، لم يُذكروا، لم يُكرموا، ولم تُكتب أسماؤهم على الجدران ولا في نشرات الأخبار. كأنهم ظلوا يؤمنون أن الوطن لا يحتاج إلى مقابل، وأن البطولة ليست وجها سياسيا.

وفي المقابل، يُدفع الآن بأشخاص بلا تاريخ حقيقي، ممن اعتادوا جلب الصرخة وتوزيع الملازم منذ 2007، ليتحولوا فجأة إلى رموز وطنية بديلة. إذ يُقدَّم "عكفي" بوصفه نموذجا بينما أبطال ريمة الحقيقيون يموتون مرتين، مرة في الميدان، ومرة في التعتيم المتعمّد.

على إن ما يتعرض له أبناء ريمة اليوم، ومعظمهم من رفاق الحزب الاشتراكي، من تهميش وتمييز داخل بنية الجيش الوطني، هو أمر مشين ولا يليق بتاريخهم النضالي. ثم إن هؤلاء الذين لم يطلبوا منصبا، ولم يتزاحموا على فتات الفساد، بل ظلوا في المتارس حين هرول الجميع نحو الغنائم.

وفي مثل هذه الأيام من يوليو، تمر الذكرى التاسعة لاستشهاد اللواء الإبارة، ذاك القائد الملهم الذي كتب بدمه ما لم تكتبه مؤتمرات ولا بيانات.  وها نحن نتذكره، ونتذكر رفاقه، في وقت بات الصدق فيه عملة نادرة. ..وعني أتذكر جيدا :

في صحيفة "الثوري"، لسان حال الحزب الاشتراكي، أفردنا أربع صفحات للجريمة، لا للخبر، بل للرثاء، للمعنى، للفجيعة. ولقد رأيت الرفيق الجليل عبده مرشد، عضو مجلس النواب، عن الحزب الإشتراكي اليمني لا يقرأ، بل يبكي، وهو يرثي صاحبه. نعم.. كان يبكي الوطن في عيني الأبارة، وكان دمعه بيانا آخر، أشد صدقا من كل الخطب. .. وفي ذلك اليوم، كتبنا بالدم: لا يموت الكبار، بل يصبحون ملامح في ضمير البلاد.

رحمة الله تغشاك يا أبارة، وسلام الله على أبناء ريمة الأشداء، أهل الوفاء الذين خذلتهم الدولة ولم تخذلهم الأرض.  ولعن الله كل زنبلة شوهت صورة الشرفاء، وكل عين غضت بصرها عن دماء الرجال. و لن ينام التاريخ طويلا.!