أخبار محلية

استغله الحوثيون وقصفته إسرائيل.. مصنع اسمنت عمران حكاية عمود الدخان الذي لم يتوقف منذ أربعة عقود!

المصدر
فيصل قاسم

في منتصف الأسبوع الفائت شنت مقاتلات إسرائيلية غارات جوية عنيفة استهدفت مصنع إسمنت عمران، أحد أكبر القلاع الصناعية في اليمن، أسفرت عن تدمير "الفرن" وتعطيل خطوط الإنتاج بالكامل، إضافة إلى تدمير منظومة التشغيل بالفحم الحجري، هجوم قدرت الخسائر الناجمة عنه بملايين الدولارات، وأُجبر آلاف الأسر المرتبطة بالعملية الإنتاجية والتسويقية على مواجهة شبح البطالة والتشرد.

منذ افتتاحه في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي ظل مصنع إسمنت عمران معلماً وشاهداً على فترة ذهبية شهدت فيها اليمن حركة دائبة في مجال تعزيز المؤسسات الصناعية الوطنية وشكل مورداً مهماً للخزينة العامة، قبل أن تسقطه مليشيا الحوثي في قبضة الاستغلال والإهمال.

يقع مصنع إسمنت عمران في مركز المحافظة التي تحمل الاسم نفسه، إلى الشمال من صنعاء، على ارتفاع 2200 متر فوق سطح البحر، وفي بيئة صخرية ثرية ما مكّنه من تغطية معظم احتياجات السوق اليمنية من مادة الأسمنت، أحد أهم مكونات قطاع البناء والإعمار.

وتعاقب على إدارة المصنع عدد من المهندسين، من أبرزهم حسين عبدالقادر كبيري، محمد أحمد الخطري، محمد يحيى الآنسى، ونعمان أحمد دويد الذي قاد المصنع لنحو 12 عاماً حتى 2007، قبل أن يتولى إدارته كل من أحمد البن، خالد المقدمي، ثم المهندس صلاح عبده ثابت حتى العام 2015، وهو العام الذي سيطرت فيه مليشيات الحوثي على محافظة عمران.

بدأت أعمال إنشاء المصنع عام 1979، وافتُتح رسمياً في 1982 بطاقة تصميمية بلغت نصف مليون طن سنويا، وصُمم لإنتاج الأسمنت البورتلاندي العادي وفق المواصفات القياسية البريطانية، باستخدام الطريقة الجافة.

وفي عام 2002، وقعت إدارة المصنع اتفاقية توسعة مع الشركة اليابانية IHI بتمويل ذاتي من أرصدة المصنع، وتم تشغيل الخط الإنتاجي الجديد نهاية عام 2007، ما رفع الطاقة الإنتاجية إلى مليون طن سنويا، وقد سجل المصنع في عام 2007 مبيعات قاربت 14.5 مليار ريال يمني، مقارنة بـ9.7 مليارات ريال في 2006.

وفي تصريح لصحيفة 26 سبتمبر عام 2013، أكد المهندس صلاح عبده ثابت، أن إنتاج الخطين بلغ 1.68 مليون طن سنويا، بعد إدخال مادة البوزلانا البركانية، موضحاً أن المصنع كان يشغل أكثر من 1600 موظف يمني، بكادر محلي بنسبة 100%.

في قبضة المليشيا

مع سيطرة الحوثيين على محافظة عمران في 2014، اقتحمت مجاميع مسلحة بقيادة "أبو غمام" المصنع، وصادرت 25 ألف طن من الديناميت المستخدم في تفجير المواد الخام، وتم نقلها إلى مصانع الألغام في صعدة واستخدامها لاحقاً في جبهات القتال، وفي بداية 2015، تم تعيين يحيى أحمد أبو حلفه مديرا للمصنع خلفا لصلاح عبده ثابت، ليفتح الباب أمام نهب الإيرادات وتحويلها لدعم مشاريع الجماعة، وفقا لمصادر داخل المصنع.

أصدر أبو حلفه قرارات بحرمان الموظفين من الحوافز والتأمين الصحي، وتحويل المخصصات إلى حسابات بنكية باسم "المؤسسة العامة للأسمنت" الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وتزايدت الاتهامات في 2016 باستخدام المصنع لأغراض عسكرية، وهو ما نفته الجماعة رسميا.

وفي فبراير 2016، شنت طائرات التحالف العربي غارات على المصنع أسفرت عن مقتل 16 شخصا وإصابة 45 آخرين وتدمير مخازن الوقود، ما أدى إلى توقف الإنتاج جزئيا ثم كليا حتى أواخر 2018، بخسائر قدرت بـ30 مليار ريال.

وفي 2019، أعادت الجماعة تشغيل المصنع، لكنها فرضت سياسة صرف سلات غذائية بدلاً عن الرواتب، ما أثار احتجاجات واسعة، تخللتها تهديدات واختطافات وفصل تعسفي، وقدّر تقرير حوثي أن الإنتاج انخفض من 120 ألف كيس يوميا إلى 45 ألفا فقط.

نتيجة لهذه الضغوط، قررت الجماعة تغيير إدارة المصنع وكلفت عبدالفتاح أحمد إسماعيل مديرا بديلاً عن أبو حلفه، وبعد سريان الهدنة عام 2022، شرعت الجماعة في تطوير خطوط الإنتاج عبر إدخال الفحم الحجري بديلاً عن المازوت، مما أدى إلى خفض الكلفة الإنتاجية بنسبة 60%، دون أن ينعكس ذلك على أسعار البيع التي ظلت تتراوح بين 3700 - 4000 ريال للكيس.

استثمارات وهمية

في مايو 2023، وبتوجيه من القياديين أحمد حامد ومهدي المشاط، استولت الجماعة على أراضٍ طينية تابعة للمصنع في منطقة ذهبان شمال صنعاء، عبر ما يسمى بـ"جمعية نبراس الخيرية" التي أنشأها توفيق المشاط، شقيق رئيس المجلس السياسي الأعلى، كشركة وهمية، وصادرت أكثر من 7 آلاف لبنة من أراضي ومحاجر المصنع بزعم إقامة مشاريع خيرية.

وأكد عاملون أن هذه الأراضي تم شراؤها خلال الثمانينات والتسعينات لتأمين التربة الطينية الضرورية لصناعة الإسمنت، وأن فقدانها يهدد بتوقف المصنع وتسريح الآلاف.

وفي السياق ذاته، تراكمت ديون المصنع لتصل إلى أكثر من 100 مليار ريال، منها 40 مليار لبنك تجاري في صنعاء، و60 مليار أخرى لشركات توريد الفحم وقطع الغيار.

في أبريل 2024، أقالت المليشيات عبدالفتاح إسماعيل وعيّنت أحمد عبدالله المرتضى مديرا جديدا، والذي باشر قرارات جائرة، أبرزها تخصيص 10% من الإيرادات لجهاز التعبئة العامة والإسناد التابع للقيادي الحوثي سلال محمد علي حمزة، كما حوّل المرتضى أكثر من مليار ريال من مخصصات المصنع إلى حسابه الشخصي خلال 8 أشهر.

وأخيراً، جاءت الغارات الإسرائيلية الأخيرة لتقضي على ما تبقى من المصنع، إذ تسببت بتوقفه الكامل، ما ينذر بكارثة اقتصادية واجتماعية تطال آلاف الأسر وتضيف عبئا جديدا على قطاع صناعي هشّ يئن تحت وطأة الحرب والفساد والاحتلال الداخلي لمؤسساته.