أخبار محلية

مولدات كهربائية تهدد صنعاء القديمة ومعالمها

المصدر
أحمد حلمي

في ليلة ربيعية عام 2022، استيقظ سكان صنعاء القديمة على دويّ انفجارين متتاليين، وحريق هائل استمر لساعات، ألحق أضراراً بالمباني الأثرية في حارة سوق البقر. كان سبب الحريق مولد كهربائي مركزي محاط بخزانات وقود.

مشهد عشوائي على مرأى الجميع، تنتشر في صنعاء القديمة مولدات كهربائية بجوارها خزانات وقود، بلا اكتراث بإجراءات السلامة العامة في فناءات المنازل والشوارع، وقرب المقاهي والمطاعم، والأسواق القديمة المزدحمة بالباعة والمتسوقين. 

أصبحت الكوابل العشوائية تغطي مسارات الحارات والأزقة. وهدوء المدينة المعتاد أصبح ضجيجاً مقلقاً لا يتوقف ليل نهار. أما الأدخنة السوداء المنبعثة من المولدات فتخنق الأنفاس وتعكر هواء المدينة. مشاهد جعلت الخوف يسيطر على الأهالي من حدوث حرائق وانفجارات مماثلة لحادث “سوق البقر”، خصوصاً أن الجهات المختصة لم تستطع فرض أي إجراءات تضمن عدم تكراره.

وفي ظل غياب البدائل، باتت المولدات حاجة للسكان للحصول على التيار الكهربائي؛ ما زاد من استغلال مالكي المولدات في استخدام إمدادات وكوابل ذات جودة متدنية، لإيصال التيار للمنازل والمحال، وعدم الاعتماد على خبرات في مجال الكهرباء لتنظيم الشبكة، إذ أصبح همهم الربح وكسب مشتركين جدد.

يكشف هذا التحقيق عن وجود 11 محطة كهربائية، مملوكة من قبل تجار وأشخاص “نافذين” داخل مدينة صنعاء القديمة، تفتقر إلى أدنى مقومات السلامة العامة، في ظل حالة من التراخي وتضارب الصلاحيات بين ثماني جهات حكومية؛ ما يجعل السكان عرضة لمخاطر الموت والإصابة والخسائر المادية جراء انفجارات وحرائق قد تندلع في أي لحظة، وتهدد بفقدان المدينة الأثرية مكانتها العالمية، بسبب تزايد التشوهات، والتغير المستمر في سماتها كمدينة مدرجة على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، من قبل لجنة التراث العالمي لليونسكو. تلك المولدات وخزانات الوقود، أصبحت “قنابل موقوتة” داخل صنعاء القديمة. في العرض أدناه أمثلة على بعض المحطات. 

جنوبي المدينة، نجد محطة “بستان شارب”، التي سميت باسم الحارة نفسها. مالكها أحمد الهرملي وشريكه عبد السلام حمزة. اتخذ الأخير من منزله مكاناً لوضع المولدات وخزانات الوقود في الفناء الخلفي فوق السور الجنوبي القديم الممتد باتجاه معلم “باب اليمن”، متجاهلاً خطر تلك المولدات وخزانات الوقود على عائلته وجميع المنازل المجاورة، وقوة الاهتزازات والوزن الزائد الذي يتعرض له السور القديم والمنازل المجاورة. 

يسيطر المالك أحمد وشريكه على 18 حارة داخل صنعاء القديمة، وجزء من سوق الملح وشارع الأدوية، ويبلغ عدد المشتركين لديهما ثلاثة آلاف و650 مشتركاً.

محطة حيدر فاهم 

في الجهة الغربية، باتجاه سوق “باب السباح”؛ توجد في أحد أزقته بناية يملكها التاجر حيدر فاهم. عند دخول تلك البناية ذات المدخل الضيق، نجد محطة كهربائية للمالك المذكور ويديرها إبراهيم الأكوع. تُظهر الصور ثلاثة مولدات مركزية وواحداً صغيراً وخزانات وقود كبيرة. قوة الضجيج في المكان تكاد تخرس كل من يمر من هناك. وواجهات المنازل تتشح بالسخام الأسود الناتج عن انبعاثات المولدات. مخالفات تقول الهيئة العامة للمحافظة على المدن والمعالم التاريخية إنها لا تعلم بها.

محطة محمد الجمل

في حارة الطبري في “بستان الهبل”، تقع محطة كهربائية يملكها محمد عبد الله الجمل، خلفها مباشرة عدد من المنازل الأثرية. تتألف المحطة من ثلاثة مولدات مركزية، بجوارها ثلاثة خزانات وقود سعتها ثمانية آلاف لتر.

محطة جمال حسين الرجوي

محطة كهربائية داخل “سمسرة الميزان”، تتبع التاجر جمال حسين الرجوي. تقع السمسرة المؤلفة من ثلاثة طوابق وسط السوق باتجاه الشمال الشرقي، وتلتصق بسمسرة الحوائج بالقرب من سوق المخلاص من جهة الغرب. هذه السمسرة من سماسر الخزن والتسويق الكبيرة، التي تمّ بناؤها عام 1391 ميلادية. وقد سميت بالميزان نسبه إلى ميزان الدولة، الذي من خلاله كانت تتمّ عملية مراقبة الأوزان المعتمدة من قبل الحكومة قديماً. وظفت السمسرة للأغراض التجارية خصوصاً تجارة البن اليمني، وصارت مركزاً رئيساً له حتى مطلع السبعينيات من القرن العشرين.

وثق التحقيق وجود مولدين مركزيين وخزانات وقود سعتها ألف لتر بالسمسرة، التي تعود ملكيتها لهيئة الأوقاف، وهو ما يضع تاريخ السمسرة وما حولها من معالم أثرية في خطر، دون التفات أو علم من الجهات المختصة.

محطة أحمد أبو الرجال

محطة كهربائية مركزية تقع في أحد البيوت الأثرية المهدمة “أرض بيت عصيد” بحارة زبارة. استأجرها المالك أحمد يحيى أبو الرجال من أجل عمل المحطة المجاورة لعدد من المباني الأثرية. توجد داخل الأرض خمسة مولدات مركزية، وخزانات وقود كبيرة وصغيرة. يسيطر المالك على أكثر من سبع حارات، ويتقاسم مع محطة المالك أحمد الهرملي وشريكه سوق الملح.

“بزنس” على وقع أزمة الكهرباء  “عندما تتخلى الدولة عن تقديم الخدمة يحل مكانها القطاع الخاص”، وهذا ما حدث، يقول رئيس قسم الهندسة الكهربائية بجامعة صنعاء عادل الشقيري.

فمُنذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، قُطع التيار الكهربائي بشكل نهائي عن العاصمة صنعاء؛ بسبب تعرض محطات التوليد الرئيسية جميعها للقصف والتخريب، وهي المحطات البخارية ومحطة مأرب الغازية، ومحطات الديزل المحلية التابعة لمؤسسة الكهرباء (حكومية).

وفي عام 2017، بدأت المولدات الكهربائية الخاصة بالعمل، وهو ما يعرف بـ”الكهرباء التجارية”، كبديل عن الكهرباء الحكومية. هذه المولدات تتبع أشخاصاً يقومون بالبيع والشراء، ومد خطوط الكهرباء للمنازل، من دون مراعاة شروط السلامة العامة، وبلا اكتراث بمعالم المدينة المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 1986. 

الواقع الجديد، خلق حالة من التنافس بين مالكي المولدات للحصول على أكبر عدد من المشتركين. فحارات صنعاء القديمة الـ 56 باتت مقسمة بينهم. ومن يمتلك مولدات أكثر، أصبح لديه عدد أكبر من عدادات التوزيع. تنافسٌ يخرج أحياناً إلى دائرة الصراع، إذا حاول أحد الملاك “التعدي” على حصة مالك آخر، بسحب مشتركين من حارته.

فمثلاً، يسيطر المالك أحمد الهرملي وشريكه عبد السلام حمزة على أكثر من 18 حارة، ويتقاسمان سوق الملح -أقدم أسواق اليمن- مع المالك أحمد يحيى أبو الرجال. ليبلغ إجمالي العدادات للهرملي وشريكه ثلاثة آلاف و650 عداداً قابلاً للزيادة. 

في حين يسيطر المالك محمد الشعباني على أكثر من 10 حارات، بإجمالي عدادات بلغ ألفاً و600 عداد، بحسب ما كشفه لمعدة التحقيق. أما المالك محمد حاتم، فيزود 5 حارات وشارع الكهرباء التجاري بالتيار.

أدى هذا التقسيم إلى تشكيل “عصابات” وليس فقط مقدّمي خدمة الكهرباء، وفق وصف أحد المواطنين داخل صنعاء القديمة، رفض ذكر اسمه تجنباً للمخاطر من قبل مالك المولد. 

إفادة مواطن من صنعاء القديمة “في إحدى المرات كنت أريد تغيير إمداد الكهرباء من محطة أخرى، جاء صاحب المحطة الأولى الذي كنت مشتركاً معه، فقام بفصل التيار الكهربائي الخاص بالمحطة الثانية، حصل بيني وبينه مشكلة فذهبت إلى قسم الشرطة، وعندما ذهبت قام أفراد من قسم الشرطة بالتواصل مع صاحب المحطة، وعندما التقيته مجددا قال لي: ذهبت لتبلغ عني الشرطة ، وأقسم أن لا أمد كهرباء إلا من المحطة الخاصة به، أو لا كهرباء. لي”

عصابات حتى لو تريد إمداد كهرباء  حكومية خاصة بالدولة ممنوع، سوف يحاربونهم، ويقومون بفصل إمدادات الكهرباء الخاصة بالحكومة”.

منذ دخول المولدات إلى صنعاء القديمة، كان المالكون يحددون تسعيرة التيار، كل على هواه، فكان سعر الكيلو واط يتجاوز 350 ريالاً يمنياً (0.5 – 0.75 دولار) بالإضافة إلى رسوم اشتراك شهرية بمتوسط ثلاثة دولارات، إلى أن حددت وزارة الكهرباء التسعيرة في 2023 بـ 250 ريالاً للكيلو (أقل من نصف دولار)، لوضع حد لفوضى الأسعار. 

“قرارات إزالة” مع وقف التنفيذ  عند مراجعة القوانين ذات الصلة بعمل مولدات الكهرباء داخل صنعاء القديمة، نجد أنها تحظر وجود تلك المولدات داخل المدينة، وفقاً لقانون المحافظة على المدن والمناطق التاريخية وتراثها الثقافي العمراني.  

بل إن تلك المولدات تعمل من دون تراخيص من الجهات ذات الاختصاص، وهي: الهيئة العامة للمحافظة على المدن والمعالم التاريخية، ووزارة الكهرباء. أظهرت مراسلات بين رئيس اللجنة الرئيسية للمولدات الخاصة ووزير الكهرباء، عدم حصول تلك المحطات على التراخيص، مع التوصية بإغلاقها. 

ورغم النص القانوني الواضح، إلا أن الهيئة العامة للمحافظة على المدن والمعالم التاريخية لم تستطع إيقاف أي من تلك المحطات، رغم إصدارها أوامر وإشعارات بإزالة عدد منها.

على سبيل المثال، اتخذت الهيئة عدة إجراءات بحق المالك محمد علي حاتم، شملت تسعة إشعارات وأوامر  وقرارات قضائية بتواريخ مختلفة، بإزالة محطته. 

لم تنجح أي من تلك الإجراءات في إزالة المحطة، ليستمر المالك المذكور بالاعتداء على السور الشمالي لمدينة صنعاء القديمة، بوضع مولد مركزي وخزانات وقود بجواره، إلى جانب ثلاثة مولدات مركزية في “بستان معمر” أمام السور.

وعند التدقيق في الملف، وجدنا عرائض شكاوى مقدمة من الشرطة السياحية في 2019، إلى وزير الثقافة، ووكيل الوزارة لقطاع الآثار، ضد نائب رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن والمعالم التاريخية في حينه، عقيل النصاري لمنعه تنفيذ أوامر الإزالة.

وبعد أن أصبحت المولدات أمراً واقعاً مخالفاً للقانون، أصدرت وزارة الكهرباء لائحة تنظيم النشاط المؤقت لمالكي المولدات الكهربائية الخاصة بتوليد وتوزيع الطاقة للمستهلكين. وجاء في نص المادة رقم (5) أنه “لا يحق لأي شخص ممارسة النشاط المؤقت لتوليد وتوزيع الطاقة الكهربائية وبيعها للمستهلك إلا بعد حصوله على ترخيص مؤقت”. وبهذا النص، فإن المحطات جميعها داخل صنعاء القديمة  مخالفة، ولا يحق لها ممارسة النشاط لعدم وجود تراخيص.

وبالنظر إلى الاشتراطات والمعايير الفنية الخاصة بممارسة النشاط المؤقت لتوليد وتوزيع وبيع الطاقة المنتجة من المولدات المنصوص عليها في اللائحة، فإن مولدات صنعاء القديمة لا تنطبق عليها تلك المعايير والشروط.

ومن بين تلك الشروط ما نصت عليه المادة (28): “لا يجوز للمرخص له القيام باستخدام نقاط لتوزيع وبيع الطاقة الكهربائية للمستهلكين عبر أشخاص آخرين من الباطن”، وما يحدث في الواقع هو أن هناك مُلاكاً يقومون بتوزيع وبيع الطاقة عبر أشخاص آخرين، كما يفعل المالكان أحمد الهرملي وعبد الإله علوس وغيرهما.

في المقابل، فإن مصلحة الدفاع المدني تُعنى بالمراقبة وإيقاف أي منشأة تخالف شروط السلامة العامة. لكنّ المحطات ما زالت تعمل، ولم تتمكن مصلحة الدفاع المدني من تطبيق القانون، وألقت بالمسؤولية على وزارة الكهرباء كونها الجهة المسؤولة عن منح التراخيص لمالكي المولدات داخل صنعاء القديمة، وفق مدير عام العلاقات العامة والإعلام خالد الشراحي. 

المشاهد نت