حقَّق المنتخب السعودي لكرة القدم مفاجأةً مُدوية، بفوزه على نظيره الأرجنتيني المدجج بنجومه العالميين، في مستهلّ مشواره في نهائيات مونديال قطر 2022.
وحملت هذه النتيجة الكبيرة بصمة فرنسية، بطلها المدرب هيرفي رونار، المعروف بدهائه التكتيكي وبتحقيقه للمفاجآت مع معظم المنتخبات الوطنية التي أشرف عليها.
عاش طفولة صعبة وفشل كلاعب محترف
وُلد هيرفي رونار يوم 30 سبتمبر/أيلول 1968 بمدينة "أيكس لي بان" الجبلية، بجنوب شرق فرنسا، لوالد فرنسي وأم ذات أصول بولندية.
عاش هيرفي طفولةً صعبة وغير مستقرة، حيث كان الابن الوحيد لوالديه اللذين انفصلا عندما كان في سن مبكرة جداً، فبقي تحت رعاية والدته، التي كانت تعمل لساعات إضافية في مجال الطبخ، قصد سد احتياجات العائلة الصغيرة، التي انضم إليها فيما بعد زوج والدته، الذي تعود أصوله إلى جزر الأنتيل ببحر الكاريبي.
بدأ هيرفي رونار ممارسة رياضة كرة القدم ضمن فرق صغيرة، قبل أن ينضم لنادي كان الفرنسي في سنة 1983، أي عندما كان يبلغ من العمر 15 عاماً، حيث كان ينشط في مركز قلب الدفاع.
بقي هيرفي رونار ضمن نادي كان حتى عام 1990، خاض خلالها 87 مباراة رسمية مع الفريق الأول، أغلبها في دوري الدرجة الثانية الفرنسي، حيث شارك في لقاءٍ واحدٍ فقط في دوري الدرجة الأولى، وكان ذلك في موسم 1988- 1989، ما يؤكد أنّ المدير الفني الحالي لمنتخب السعودية لم ينجح كلاعب محترف.
بعد رحليه عن فريق كان، انضم رونار إلى نادي فالوريس في سنة 1991، فدافع عن ألوانه حتى العام 1997، فشارك في 105 مباريات رسمية، سجل خلالها هدفين اثنين، وعاش رفقته سلسلة خيبات بالهبوط من دوري الدرجة الثالثة حتى دوري الدرجة الخامسة.
وأنهى رونار مشواره الرياضي كلاعب ضمن نادي "دراغينان" في موسم 1997-1998، بدوري الدرجة الخامسة الفرنسي، بعد تعرضه لإصابة على مستوى الركبة، وكان حينها يبلغ من العمر 30 سنة.
وفضّل الشاب هيرفي البقاء في عالم كرة القدم، فتحول إلى ميدان التدريب، فأشرف على نادي دراغينان، وكان في ذلك الوقت يعمل أيضاً في مجال صعب وشاق، يتمثل في تنظيف البيوت، إذ أسّس مؤسسته الصغيرة الخاصة، واسمها "RV NET"، المتخصصة في تنظيف فيلات منطقة "كوت دازور" الساحلية بجنوبي فرنسا.
وقد عبّر عن اعتزازه بذلك العمل الذي يتكبّر عليه الكثير من الفرنسيين، فقال في تصريح نقله موقع EUROSPORT على نسخته الفرنسية: "لا أدّعي أني عملت في أحد المناجم بشمالي فرنسا، ولكني عملت في مهنة صعبة، مثل كل الأشخاص الذين يضطرون للاستيقاظ باكراً للذهاب للعمل طيلة اليوم وبدون توقف".
اتصال هاتفي مفاجئ غيَّر مجرى حياته
بعد سنتين فقط على رأس الإدارة الفنية لنادي دراغينان، أنهى هيرفي رونار ارتباطه مع ذلك الفريق، مُفضلاً التركيز على تسيير مؤسسته الصغيرة الخاصة، وذلك قبل أن يتلقى اتصالاً هاتفياً كان بمثابة المنعرج الحاسم في حياته.
وروى هيرفي قصة تلك المكالمة الحاسمة، لصحيفة libération الفرنسية، فقال: "تعاقد المدرب كلود لوروا مع نادي شنغهاي الصيني، وكان يبحث عن مدرب مساعد، فاختارني أنا، لا أدري لماذا أنا بالذات، المهم لم أتردد، وقبِلت المهمة".
كانت تجربة هيرفي رونار إلى الصين قصيرة وفاشلة أيضاً، لكنها كانت بالمقابل فرصة مواتية للتعرف أكثر على المدرب الفرنسي المحنك والمخضرم كلود لوروا، الذي كان قد اشتهر بعمله لفترة طويلة بإفريقيا، والذي اتصل به مُجدداً في سنة 2007 لمساعدته في الإشراف على منتخب غانا.
ونجح رونار ضمن الجهاز الفني لكلود لوروا في قيادة غانا للحصول على المرتبة الثالثة في نهايات كأس أمم إفريقيا لكرة القدم لسنة 2008، لتكون تلك التجربة بداية تعرّف الأفارقة على هذا الاسم الجديد في عالم التدريب، فاتصل به اتحاد الكرة الزّامبي للإشراف على منتخبه الأول.
بدأ رونار عمله رسمياً كمدير فني لمنتخب زامبيا، يوم 7 مايو/أيار 2008، وكانت بدايته في المشاركة في تصفيات كأس العالم لكرة القدم 2010، وقد اشتهر حينها باسم "الثعلب"، الذي يحمل اسمه فعلاً، إذ إنّ كلمة "رونار" باللغة الفرنسية هي اسم حيوان الثعلب.
ورغم نقص تجربة لاعبي المنتخب الزامبي، فإنّ رونار نجح بدهائه وبتصريحاته الدبلوماسية تارة، والنارية تارة أخرى، في مزاحمة منتخبي الجزائر ومصر على تأشيرة التأهل إلى نهائيات مونديال جنوب إفريقيا 2010، قبل أن يكتفي بالتأهل إلى نهائيات كأس أمم إفريقيا، التي جرت في مطلع السنة ذاتها بأنغولا، وبلغ حينها الدور ربع النهائي من المسابقة.
وفي أبريل/نيسان 2010، قرَّر رونار مغادرة زامبيا لخوض تجربة تدريبية أخرى بإفريقيا، فتعاقد مع منتخب أنغولا يوم الثامن من نفس الشهر، لمدة سنتين، ولكنه استقال بعد 6 أشهر فقط، بسبب عدم حصوله على مستحقاته المالية.
بقي رونار بإفريقيا، ولكنه توجه هذه المرة نحو شمالها، وبالضبط إلى الجزائر، لتدريب نادي اتحاد الجزائر العاصمة، بداية من يناير/كانون الثاني2011، لمدة سنتين ونصف السنة، مع بند في العقد يسمح له بمغادرة الفريق في حالة تلقيه عرضاً لتدريب منتخب وطني.
تُوج بكأس إفريقيا مع منتخبين مختلفين
وهذا ما تم فعلاً، إذ عاد هيرفي رونار لتدريب منتخب زامبيا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، ونجح في تحقيق مفاجأة من العيار الثقيل بتتويجه بلقب كأس أمم إفريقيا لكرة القدم لأول مرة في تاريخ البلاد، خلال الدورة النهائية التي اشترك في احتضانها، في سنة 2012، دولتا الغابون وغينيا الاستوائية، وذلك بعد فوزه في اللقاء النهائي على منتخب كوت ديفوار بركلات الترجيح.
وعقب هذا التتويج الإفريقي التاريخي، عاد رونار إلى موطنه فرنسا لتدريب نادي سوشو، في أكتوبر/تشرين الأول 2013، لكن مهمته انتهت بالفشل، وذلك بسقوط النادي إلى دوري الدرجة الثانية الفرنسية، عند نهاية موسم 2013-2014.
لم يبقَ "الثعلب" بعيداً لفترة طويلة عن ميادين الكرة، حيث تسلّم مقاليد الإدارة الفنية لمنتخب كوت ديفوار، في يوليو/تموز 2014، فكان الأمر بمثابة فرصة جديدة لتأكيد سمعته الطيبة كمدرب ناجح للمنتخبات، حيث قاد "الفيلة" لنيل لقب كأس أمم إفريقيا خلال النهائيات التي جرت في سنة 2015 بغينيا الاستوائية، وبعد الفوز في اللقاء النهائي على منتخب غانا بالركلات الترجيحية.
وأصبح رونار بعد ذلك الإنجاز الجديد أول مدرب يُتوّج بلقب كأس أمم إفريقيا لكرة القدم مع منتخبين مختلفين، لكنه أنهى مهمته مع منتخب كوت ديفوار بالتراضي، وعاد للتدريب بفرنسا، فأشرف على نادي ليل بداية من مايو/أيار 2015، قبل أن تتم إقالته بعد 6 أشهر فقط لسلبية النتائج، لتتأكد بذلك مقولة "إنّ هيرفي رونار هو مدرب منتخبات وليس أندية".
قاد المغرب إلى نهائيات مونديال روسيا 2018
بعد فترة قصيرة من الراحة عاد رونار إلى القارة السمراء، في فبراير/شباط 2016، لتدريب منتخب المغرب، فقاده للتأهل إلى نهائيات مونديال روسيا 2018، ولكنه استقال من منصبه يوم 21 يوليو/تموز 2019، بعد تحمله مسؤولية الإخفاق في نهائيات كأس أمم إفريقيا، التي جرت بمصر في صيف نفس العام.
بعد أسبوع واحد فقط من استقالته من تدريب منتخب المغرب أعلن هيرفي رونار تعاقده مع الاتحاد السعودي لكرة القدم، لمدة سنتين، لتدريب المنتخب الأول، ثم جدّد العقد لمدة 5 سنوات كاملة، يوم 27 مايو/أيار 2022، بعد نجاحه في تأهيل منتخب "الأخضر" لنهائيات مونديال قطر.
ويبدو أنّ اتحاد الكرة السعودي قد أحسن الاختيار، حيث حقَّق المنتخب العربي مفاجأةً كبيرة بفوزه على نجوم الأرجنتين، في أولى مبارياته في نهائيات كأس العالم لكرة القدم، المتواصلة حالياً بقطر، على أمل الاستمرار في الاستفادة من دهاء "المدرب الثعلب" في اللقاءات القادمة من المسابقة العالمية.
ومثلما اشتهر هيرفي رونار بتدريب الكثير من المنتخبات والأندية، فإنه معروف أيضاً بعدم الاستقرار في حياته العاطفية، إذ تزوج 3 مرات، آخرها في فبراير/شباط 2017، من السنغالية فيفيان دييه، أرملة الفرنسي برونو ميتسو، المدرب السابق لمنتخب السنغال، الذي توفي في سنة 2013.