تواجه الوحدة اليمنية تحديات جسام بعد 35 سنة على إعادة تحقيقها عام 1990م، وفي مقدمة تلك التحديات ليس مشروع الانفصال وملحقاته وما يلقاه من دعم خارجي، بقدر ما هو في تساهل السلطات القائمة وتعاملها الرخوي ليس مع مشاريع الانفصال، بل تجاه الوحدة كحقيقة تسند استقرار البلد السياسي، وذلك انطلاقًا من تعاملها اللامسؤول مع ثنائي الدولة والمواطنة. التعامل اللامسؤول من السلطات اليمنية القائمة حاليًا مع الوحدة ينطلق من أن ثمة ايمانًا بات راسخًا لديها أن التمزق والتقسيم بات هو مآل هذا البلد، وهذا التصور بقدر ما ينطلق من دعم خارجي يعزز من حضور مشروع الانفصال وملحقاته، هو يعكس، في الوقت ذاته، مدى نزوعها نحو السلطة مهما كان الثمن، حتى لو كان المآل هو أن يذهب اليمن إلى مزيد من الخراب والتمزق، وأن يفقد المواطن كل حقوقه التي تكفل له حياة كريمة، وهذه الأخيرة صارت واقعًا. للأسف، اليمن ليس بخير! إذ تحل الذكرى الخامسة والثلاثين لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية والجغرافيا اليمنية مقسمة بين سلطات ترفض حتى فتح الطرقات فيما بينها، مما يعني أن ثمة حدود قائمة تُقسّم مناطق نفوذ هذه الجغرافيا، ضمن مشاريع تقسيم الواقع الراهن، الذي فرضته الحرب وتداعياتها. وحتى داخل بعض مناطق النفوذ مشاريع التقسيم تظهر مشاريع تفتيت صغيرة تحت لافتات مختلفة، ونعرف جيدًا أنه لا يمكن لمشروع تقسيم أن يقف على قدميه دون ممول خارجي. 22 مايو/ أيار هو اليوم الوطني للجمهورية اليمنية بناءً على دستور دولة الوحدة، التي قامت في ذات التاريخ عام 1990، بعد عقود من النضال السياسي والتضحيات المتواترة من أجل إعادة اللحمة اليمنية إلى وضعها الطبيعي، بلد موحد في جغرافيته وتاريخه وثقافته وتراثه، وقبل ذلك هويته، وبقدر ما هي غاية تكون وسيلة لبناء دولة تحقق العدالة في توزيع السلطة والثروة، وتحترم الحرية والمواطنة المتساوية. لكن ذلك لم يتحقق، وكانت تلك أول ضربة في بدن دولة الوحدة، تم ترجمتها بوضوح في حرب صيف 1994، وصولًا إلى استمرار التعاطي اللامسؤول مع حقيقة الوطن والدولة بعيدًا عن مسار تعزيز المواطنة والدولة المدنية، وتجاهل مطالب المُسرحيّن من وظائفهم عقب تلك الحرب، حتى تحولت تلك المطالب إلى حراك يُطالب بالانفصال، وصولًا إلى بلورته وتمويله خارجيا. اللافت أن مشاريع التقسيم، وفي مقدمتها، وربما عنوانها، الأبرز مشروع المجلس الانتقالي الجنوبي، لم تستطع أن تنجح في إقناع المواطن بالأهمية السياسية للمشروع، لأن الرؤية والتطبيق فشلا في التعامل مع صوت كرامة الناس، من خلال توفير احتياجاتهم المعيشية، عندما تولى قادة هذا المشروع السلطة وتحكموا بمصادر التمويل. يطمح «الانتقالي»، الذي تأسس عام 2017، إلى أن يعود باليمن إلى ما قبل عام 1990، وهو إعادة وضع الدولتين، إحداهما في الشمال، والأخرى في الجنوب وفق الحدود التي كانت قائمة قبل 22مايو/ ايار 1990، لكنه في ذات الوقت لا يريد استعادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي كانت قائمة جنوبًا، بل يريد دولة مختلفة، لأن مشروعه الانفصالي يتنكر للهُوية اليمنيّة، ويتعامل مع الانفصال باعتباره انفصالًا سياسيًا وثقافيًا، مكرسًا ثقافة مفادها أن جنوب وشرق اليمن لا يحملان الهُوية اليمنيُة، متنكرًا ، في ذلك، لتاريخ طويل بقي فيه اليمن بوتقة واحدة لهُوية واحدة على امتداد الجغرافيا والتاريخ في جنوب الجزيرة العربية، وهو بذلك يستهدف تحقيق الانفصال والقضاء، في الوقت ذاته، على أية محاولات لاستعادة الوحدة اليمنية مستقبلًا. الانفصال الهوياتي يمثل تحديًا خطيرًا لمستقبل اليمن، ويعكس الأهداف التي يطمح الممول لتحقيقها، بما يضمن له استمرار السيطرة الخارجية على مقدرات الداخل اليمني الاستراتيجية. أكد المجلس الانتقالي الجنوبي، في بيان اجتماع الهيئة الإدارية لما تُعرف بالجمعية الوطنية للمجلس، أمس الأربعاء، الثبات على مشروع الانفصال، محييًا الذكرى الـ 31 لإعلان «فك الارتباط» في 21 مايو 1994. وفي مستهل حرب صيف 1994 أعلن نائب الرئيس اليمنيّ علي سالم البيض من عدن ما اسماه «فك الارتباط»، والعودة إلى ما كان عليه اليمن قبل عام 1990، وهي المحاولة التي فشلت بانتصار قوات صنعاء بقيادة الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، وتم استعادة الوحدة حينها، وإقصاء الحزب الاشتراكي اليمني كشريك في تحقيق الوحدة، لكن إجراءات صالح التي تلت ذلك النصر، تحت تأثير زهو ثقافة القوة، لم تكن في صالح ثقافة الوحدة، بل منحت أعداء الوحدة أرضية خصبة للانطلاق صوب المطالبة بالانفصال. لكن مشروع «الانتقالي» يختلف كثيرًا عما كان يحمله البيض، فالأخير لم يتنكر للهُوية اليمنية، كما يفعل مشروع «الانتقالي». في بيان اجتماعها، جددت الهيئة الإدارية للجمعية الوطنية لـ «الانتقالي»، «العزم على مواصلة شعب الجنوب مسيرة استكمال النضال حتى تحقيق استقلال الجنوب وطنًا ودولة وهوية». كما جددت تمسك الانتقالي «بقضية شعب الجنوب ووحدة صفة ونضاله السياسي والشعبي حتى تحقيق الاستقلال التام واستعادة وبناء دولة الجنوب الفيدرالية المستقلة».
تجارب الشعوب
كان لابد من قراءة متأنية للحظة اليمنية الراهنة، والاستعانة في ذلك بشهادتين يمنيتين: الأولى لنقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق، المفكر عبدالباري طاهر، والثانية لأمين عام حزب التجمع الوحدوي اليمني، عبدالله عوبل. يقول عبدالباري طاهر في رده على أسئلة «القدس العربي»: «مستقبل الوحدة، بل الكيان اليمني، واليمن كوطن- أصبح مرتبطًا بوضع المنطقة كلها. فالمنطقة يجري استكمال تدميرها وعودة احتلال بعضها. ما يجري في غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان والسودان وليبيا والعراق- يَعمُّ الأمة العربية كلها، ويشمل حتى التي تعتقد أنَّ دفع الإتاوات والخُوَّة سوف يحميها، وهي واهمة في ذلك. فالمنطقة والأمة العربية كلها وثرواتها مستهدفة، والاستيلاء عليها ليسَ بِخافٍ». وأضاف: «اليمن في وضعها الراهن صعب، وهو الآن موزع على أكثر من كيان، وتحت الفصل السابع، ويتعرض لعدوان صهيوني متواصل، وتحكمه مليشيات لا تؤمن بالكيان الوطني، وجُلُّهَا معادٍ للوحدة اليمنية، وبعضها الآخر لا يعترف باليمن ككيان حضاري وتاريخي ممتد عبر آلاف السنين، وجواره الخطر لا همَّ له غير التفكيك والتقسيم، واستمرار الحروب وخلق الفتن والاستيلاء. إنَّ ما يجري في اليمن ما هو إلا استمرار للتجزئة، وفرض للكيان الصهيوني وتسيده على المنطقة من الماء إلى الماء». وأردف: «هذا هو الحال في المنظور المعاش، ولكن هذا ليس نهاية المطاف. فدائمًا في تاريخنا المعاصر، وفي تجارب الأمم والشعوب يكون الرد والتمرد على الاحتلال والاستبداد، وثورات الأمة العربية خير شاهد، والربيع العربي شاهد ليس بالبعيد. إرادة الشعب اليمني والأمة العربية لن تموت، والليل يعقبه النهار. وقد مرت اليمن والأمة العربية بنكبات منذ فجر التاريخ، وكانت القوى الاستعمارية تعتقد أنها قد ماتت، وفي لحظات من التاريخ تنهض الأمة وتنتفض الشعوب ضد هذه المحن، لترد على صُنَّاع الدمار والموت والاستعباد». وتابع أن «التوحش الأمريكي، والبربرية الصهيونية، وخذلان الحكام الموالين والمتحالفين معها- مآله الخسران والبوار. فالحياة دومًا أقوى من الموت. ولكم نتمنى أن يَقرأَ الحكام العرب تململ الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الصانعة لإسرائيل والحامية لها من سلوك إسرائيل، وعلينا أن نتعلم من الإسرائيليين والشعوب الأوروبية الاحتجاجات والمظاهرات ضد ما يجري في غزة والضفة الغربية. إنَّ تعافي الأمة العربية والشعب اليمني معها ليس مستحيلاً، فما ينقصها سوى غياب الحامل الوطني، وضعف الإرادة، والخوف من حُكَّامِنا أكثر من الأعداء الاستعماريين والصهاينة».
مشروع تنموي
فيما يقول أمين عام حزب التجمع الوحدوي اليمني، عبدالله عوبل، في قراءته للحظة الراهنة في علاقتها بالوحدة اليمنية: «تهل علينا اليوم الذكرى الخامسة والثلاثين لقيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990 المجيد. وبهذه المناسبة نهني جماهير شعبنا اليمني في الداخل والخارج، ونتمنى أن تتوقف الحرب ويتفق اليمنيون على حل شامل على قاعدة مخرجات الحوار الوطني وما ستفضي إليه الحوارات في المستقبل». وأضاف لـ«القدس العربي»: «حزب التجمع الوحدوي اليمني، نشأ في سياق نضال وطني لفترة طويلة قاده مؤسسوه الأوائل وعلى رأسهم المناضل الوطني عمر الجاوي. لقد كان الثاني والعشرين من مايو/ تموز يمثل انجازا تاريخيا عظيما في نهاية القرن العشرين. إذ تم إعادة توحيد اليمن ليبدأ مسيرة التنمية، ويؤسس لدولة قوية تجمعت مواردها المادية والبشرية، لتلحق بموكب التطور الحضاري العالمي وتستفيد من منجزات العلم والتكنولوجيا التي تطورت بشكل مذهل مع بداية القرن 21. وأردف: «للأسف لم يكن طرفي الوحدة في مستوى هذا الحدث العظيم، ولم يكن هناك مشروع تنموي ينظم طاقات المجتمع ويوظفها لتطوره. انتكاس الوحدة بعد انتخابات 1993 كان بسبب خلل في تفكير قيادة الدولة اليمنية، فقد كانت فكرة الإقصاء حاضرة وفكرة الضم والإلحاق أيضا حاضرة. هكذا جاءت حرب 1994 الظالمة لتنسف كل آمال الناس في الشمال والجنوب بدولة قوية تحقق التنمية التي تضمن للمواطن العيش بكرامة وعزة في وطن 22 مايو. تم طرد شريك الوحدة من السلطة ومن البلاد وتسريح الجيش والموظفين مما خلق تعقيدات كبيرة مازالت تتطور إلى الاسوأ إلى اليوم «. ويرى عوبل أن «الدولة لم تتخذ معالجات لكل ما جرى من تداعيات حرب 1994، واستمر النظام في إهمال دعوات الإصلاح واعادة المسرحين قسرًا إلى وظائفهم ووقف العبث بممتلكات الدولة من قبل المتنفذين، الأمر الذي فاقم المشكلة، وتطورت فكرة الحراك في 2007، وبدأت الاحتجاجات التي قوبلت بالعنف في معظم الأحيان. وفي 2014 تم الانقلاب على مخرجات الحوار الوطني، ودخلت البلاد في حرب مستمرة منذ عشر سنوات دمرت الأخضر واليابس وأدخلت البلاد في مجاعات وانعدام الخدمات. لكن الأسوأ أن الحوثي دخل مناطق الجنوب في 2015 فاتحًا مما زاد من غضب الجنوبيين وخروجهم للمطالبة بالانفصال. وقد استغلت بعض القوى بعض الأخطاء من الشرعية، وشكلت المجلس الانتقالي بدعم كامل من دولة الامارات العربية المتحدة». وقال: «اليوم أصبح المجلس الانتقالي هو سلطة الأمر الواقع وأخذ نصف مناصب الشرعية، لكنه لم يحقق للمواطن الجنوبي لا خدمات ولا حياة كريمة، بل زاد من الأعباء على المواطنين من خلال الجبايات غير الشرعية والفساد ونهب الأراضي واحتكار الوظيفة الـعامة، فتحول الغضب الجماهيري الجنوبي ضد الشرعية والانتقالي. وخرجت النساء في عدن وأبين ولحج في ظاهرة تستعيد ماضي المرأة العدنية في العهد الاستعماري، حيث كانت تقاوم الاحتلال البريطاني وتساند المقاتلين في عمليات الكفاح المسلح». ويعتقد عبدالله عوبل، أن «موضوع انفصال الجنوب يحتاج إلى إعادة قراءة خلافًا لما كان عليه الأمر في 2017 عند تأسيس المجلس الانتقالي. أصبح اهتمام الناس هو انهيار العملة وغلاء الاسعار وانعدام الخدمات، وخصوصا الماء والكهرباء. فمن سيقوم بإصلاح هذه المشكلات وإعادة الأمل للناس سيكون الناس معه. وهذا يطرح تحديًا أمام الشرعية إن كانت تريد دولة اتحادية، فعليها وقف الفساد والتوجه لحل المشكلات الخطيرة، التي سببت المجاعات والفقر وانعدام الخدمات في مناطق الشرعية».