في مدينة تعز، التي تحوّل فيها الحصول على الماء من حاجة أساسية إلى رفاهية صعبة المنال، في ظل أزمة مائية حادة تتفاقم يومًا بعد آخر "كنت أشتري الخزان بـ12 ألف ريال، اليوم وصلت 40 ألف، كيف أعمل وأنا راتبي ما يكفي أكل العيال؟"، بهذه الكلمات يختصر المواطن خالد عبد الله معاناة آلاف الأسر.
في الأحياء الشعبية من المدينة، باتت الطوابير أمام خزانات الماء أو صهاريج التوزيع مشهدًا يوميًا. ويعيش سكانها بين خيارين كلاهما مر: إما دفع مبالغ باهظة لشراء خزان ماء أو انتظار طويل لمياه مجانية لا تأتي غالبًا.
أزمة مركّبة... أسباب متشابكة تعود جذور أزمة المياه في تعز إلى تعقيدات بيئية وفنية وأخرى ناتجة عن الحرب المستمرة. يقول عمر محمد زين بن شهاب، الباحث المتخصص بالإدارة المتكاملة للموارد المائية في مركز "الكوكب الأزرق للدراسات":
"تعاني تعز من فقر مائي طبيعي بحكم موقعها الجبلي المحدود بمصادر المياه السطحية والجوفية، مع اعتماد على أمطار موسمية ضعيفة. كما أدى الاستنزاف الجائر للمياه الجوفية إلى عجز مزدوج، حيث بلغ معدل السحب ضعف معدل التغذية."
ويضيف:
"غياب مشاريع متطورة للصرف الصحي سوف يساهم أيضًا في احتمالية تلويث مصادر المياه، إلى جانب تهالك شبكة التوزيع التي تعاني من الأعطال وضعف الصيانة."
الحرب والنزوح عبء إضافي مع استمرار الحرب وتوافد آلاف النازحين إلى المدينة، تفاقمت الضغوط على البنية التحتية. يقول بن شهاب: "ازدادت الحاجة للمياه، لكن الشبكات أصلاً قديمة وضعيفة. الخزانات تضررت، والخطوط تعاني من التسريبات، ومع شح التمويل الحكومي باتت الإصلاحات بطيئة."
تأثيرات صحية وزراعية ويحذر الباحث من تداعيات كارثية في حال استمرار الأزمة، مشيرًا إلى "احتمالات تدهور الأراضي الزراعية، وتهديد الأمن الغذائي، وانتشار الأمراض مثل الكوليرا والتهاب الكبد نتيجة استخدام مياه غير صالحة للشرب."
تكاليف باهظة ومعاناة إنسانية من جانب آخر، يشير المواطن عبد الرحمن، وهو موظف حكومي، إلى أن قيمة الصهريج "الوايت" 6000 لتر بـ 45 الف ريال وأصبحت تتجاوز راتبه الشهري، حيث يضطر لشراء الماء على فترات متباعدة، مما يؤثر على نظافة المنزل وصحة أطفاله.
وتقول أم فاطمة، وهي أم لخمسة أطفال: "نقضي أيامًا بلا ماء. لا نغسل، لا نطبخ، ولا نعرف إلى متى سنعيش بهذا الشكل. الماء صار حلمًا."
من جانبهم يدافع مالكو صهاريج نقل المياه "الوايتات" عن أنفسهم أمام اتهامهم بالجشع يقول وسيم الحاج، صاحب صهريج "وايت"ماء، فيدافع عن رفع الأسعار، قائلاً: "نشتري الديزل بأسعار خيالية، وتكلفة التعبئة من الآبار مرتفعة. أضف إلى ذلك زحمة الطوابير ومشاكل الصيانة وقطع الغيار."
ويتابع: "المسافات بعيدة، الطرقات وعرة، والعمل متواصل ليلاً ونهارًا. نظل في الطابور إلى منتصف الليل فقط لتعبئة الماء للمواطنين. نحن نتعب لأجل الناس، ولكن لا أحد ينظر لتكاليفنا."
مطالب لأجل البقاء ويختم وسيم حديثه بمناشدة للسلطات: "نطالب بحلول عاجلة لانهيار الريال اليمني، لأنه يرفع سعر الديزل بشكل جنوني. كما نأمل فتح الطرقات لتسهيل الوصول إلى آبار جديدة من الجهات التي تسيطر عليها جماعة الحوثي."
حلول ممكنة تتطلب إرادة أما بشأن الحلول، فيؤكد الباحث عمر بن شهاب أن الأزمة لا يمكن حلها إلا من خلال مقاربة تشاركية وشاملة، تبدأ بإعادة تأهيل البنية التحتية للمياه، من شبكات نقل وتوزيع إلى حقول الآبار، بالتوازي مع تحسين أنظمة المراقبة وجودة المياه المستخدمة من قبل السكان. ويشدد على أهمية تطوير مصادر بديلة للمياه، مثل مشاريع تحلية مياه البحر، وحصاد مياه الأمطار بشكل حديث وعلى نطاق واسع، لتقليص الفجوة بين معدل الاستهلاك والتغذية الطبيعية للمياه الجوفية. كما يتطلب الأمر إطلاق حملات توعية لترشيد استهلاك المياه، وإقرار قوانين صارمة لحماية الموارد المائية ومنع الحفر العشوائي، فضلاً عن تطوير شبكات الصرف الصحي واستثمارها في الري الزراعي بعد المعالجة. ويرى عمر أن هذه الجهود يجب أن تتكامل تحت إشراف السلطة المحلية والسلطات المركزية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والدولية، والمواطنين أنفسهم، لضمان استدامة الحلول وتخفيف معاناة السكان الذين باتوا لا يطلبون أكثر من شربة ماء نظيفة.
بين المعاناة اليومية للمواطن، وضغط العمل لصاحب الوايت، والتحذيرات العلمية من المختصين، يبقى الماء في تعز قصة كفاح يومي، تقف فيها الأسر الفقيرة على حافة العطش، بانتظار حل قد لا يأتي قريبًا.
المصدر أونلاين