لم تكن تدرك مريم الشميري (31 عاماً)، أن نهاية حياتها ستكون بعد وضع مولودتها. كانت تراجع حملها لدى طبيبة بمستشفى خاص بالعاصمة صنعاء منذ الشهر الرابع، وكانت حالة الحمل طبيعية حتى الشهر التاسع، كما أخبرها الطاقم الطبي.
وما إن بدأت آلام المخاض، حتى أبلغها الأطباء بضرورة توليدها بعملية قيصريّة، نتجت عنها مضاعفات تمثّلت بارتفاع ضغط الدم، وصولاً إلى إصابتها بجلطة في المخ، دخلت على إثرها في غيبوبة استمرت نحو أربعة أشهر، ولم تفق منها حتى وفاتها في شهر كانون الثاني/يناير 2023.
تقدّمت عائلة مريم بشكوى للمجلس الطبي الأعلى، الذي خلص في نتائج التحقيق إلى وجود “قصور فني” تمثّل في أنّ مَن قام بالتخدير غير مؤهل، الأمر الذي تتحمل مسؤوليته إدارة المستشفى وفني التخدير. كما أشار تقرير اللجنة إلى “قصور في إجراءات نقل المريضة من العمليات إلى العناية قبل استقرار وضعها”. وثيقة المجلس الطبي – قرار المجلس الطبي بخصوص حالة مريم الشميري
حالة مريم كانت دافعاً للبحث في نسب وفيات الأمهات بعد إجراء العمليات القيصريّة، وأظهرت بيانات صادرة عن البنك الدولي، أن إجمالي الوفيات بعد الولادة بشكل عام في اليمن، بين عامي 2010 و2020، بلغ 1832 حالة (آخر إحصائية متوفرة). ووفق أطباء وممرضين تحدثوا لمعديْ التحقيق، فإن 70 بالمئة من إجمالي وفيات الأمهات بعد الولادة، نجمت عن عمليات قيصريّة.
وتشير بيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، إلى أن إجمالي الولادات القيصريّة المُسجّلة في اليمن للأعوام 2020 – 2023، بلغ 317 ألف حالة، من بين إجمالي عدد الولادات التي بلغت 2.07 مليون حالة في المستشفيات الخاصة والحكومية.
ويدلّل على هذا الارتفاع ما خلصت إليه نتائج استبيان خاص بالتحقيق، شمل 45 سيدة يمنيّة، أظهرت أن 85 في المئة من العينة كانت ولادتها قيصريّة، وأن 72 في المئة منهن أجرين العمليات في مستشفيات خاصة.
عملية ربحية توضح النقابة العامة للمهن الطبية والصحية بمحافظة حضرموت، أن حصول الأطباء في المستشفيات الخاصة على نسبة من تكلفة إجراء العملية القيصريّة، هو السبب الأبرز لارتفاع أعداد هذه العمليات. وتصل النسب التي يتقاضاها أطباء الولادة إلى 60 في المئة من إجمالي تكلفة العملية في بعض المشافي، وفقاً للطبيبة (ل.ع)، التي تعمل بأحد مستشفيات صنعاء.
وتضيف الطبيبة: “90 في المئة من الحوامل اللائي يدخلن المستشفى، يخضعن لعمليات قيصريّة، حتى وإن كانت المريضة على وشك الولادة؛ إذ تأتي الحامل للمستشفى وهي تعاني ألم الولادة، ويتمّ تحويلها على وجه السرعة إلى عملية قيصريّة”.
تتراوح تكلفة القيصريّة في اليمن بين 250 ألف ريال يمني ومليون ريال (500 – 2000 دولار) في المستشفيات الخاصة، في حين لا تتجاوز التكلفة بالمستشفيات العامة 70 ألف ريال يمني (120 دولاراً).
وعلاوة على العائد المادي، فإن عامل الوقت يجعل الولادة القيصريّة الخيار الأسهل لطبيبات النساء والتوليد، بحسب استشاري الجراحة العامة، وعضو جمعية الجراحين اليمنيين، عصام القرودع.
ونقل قردوع عن طبيبة نسائيّة قولها: “ما بجلس انتظر الحامل أربع أو خمس ساعات، لذا أفضل إدخالها عملية قيصريّة في نصف ساعة، وأرجع سكني وأحصل على نسبة من العملية”.
ممرضون وأطباء كُثر شهدوا بأنفسهم عدة محاولات من أطباء النساء والتوليد، بإقناع الحوامل بالعمليات القيصريّة. من بينهم مراد إبراهيم، الذي يعمل ممرضاً في أحد المستشفيات الخاصة بالحديدة، والذي قال إن الكثير من الحالات خضعت للقيصريّة من دون أيّ مبرر طبي، بهدف تحقيق الربح المادي للمشفى، وطمعاً من الطبيبات بالحصول على نسبة من تكلفة العملية.
ويورد إبراهيم حالة ابنة خاله؛ إذ ذهبت -كما يقول- لأحد المستوصفات الخاصة وقررت الطبيبة إجراء عملية قيصريّة لها، لكنّه أصر على إخراجها من المستوصف، كونها الولادة الأولى لها. ويضيف إبراهيم بالقول: “بعد أن كانت جاهزة لدخول غرفة العمليات، أخذناها إلى مستشفى حكومي، ووضعت مولودها طبيعياً”.
ولا تقتصر الأعباء المادية على إجراء العملية القيصريّة فقط، بل تتكبد الأمهات تكاليف حاضنات الأطفال، التي تتراوح بين 25 – 30 ألف ريال يمني (60 دولاراً) لليلة الواحدة في المستشفيات الخاصة، وخمسة آلاف ريال (تسعة دولارات) في المستشفيات الحكومية.
وفق طبيبة النساء والتوليد بأحد مستوصفات صنعاء، نهى العريقي، فإن “المستشفيات تستغل جهل الأم والأسرة بأسباب إدخال المواليد إلى الحضانات، ويتمّ اللجوء إلى هذا الخيار، حتى وإن لم يكونوا بحاجة إليه، ويوافق الأهل خوفاً من حدوث أيّ مكروه”.
بنظرها، الأمر يتحول إلى عملية ربحية بحتة: “ليس جميع الأطفال الذين ولدوا بعمليات قيصريّة بحاجة إلى حضانة، تضاف تكاليفها إلى تكلفة العملية والأدوية”.
وتضيف العريقي: “تخوف الحوامل من الولادة يأتي في صالح الطبيبات والمستشفيات، فبدلاً من انتظار الطبيبة ثماني ساعات أحياناً، حتى تلد الحامل بشكل طبيعي، تقرر إدخالها عملية قيصريّة خلال ساعة واحدة، وتحصل على عمولة 60 في المئة من المستشفى”.
وتؤكد العريقي، أن الحوامل لا يُشرح لهن مخاطر ومضاعفات التخدير، ولا مضاعفات العملية القيصريّة.
وتتزايد العمليات القيصريّة تحت وطأة ضغوط “غير مباشرة”، تمارسها إدارات المشافي على أطباء النساء والتوليد، من أجل إجراء مزيد من الولادات القيصريّة؛ بهدف تحقيق ربح مادي أكبر بوقت قصير، مقارنة بحالات الولادة الطبيعية، الأمر الذي تؤكده اختصاصيّة النساء والتوليد بمستشفى السبعين للأمومة والطفولة بصنعاء، صفية الحميدي.
ماذا تقول وزارة الصحة؟ بعد التواصل مع وزارة الصحة اليمنية (في المناطق الخاضعة لسيطرة المجلس السياسي الأعلى)، للسؤال عن أسباب الارتفاعات الملحوظة في العمليات القيصريّة، كان رد مسؤولة الصحة الإنجابية زينب البدوي بالقول: “المؤشرات غير صحيحة (…) ولا أدري من أين جاءت بهم (الإحصائيات) جمعية القابلات، والوزارة لم تغلق أيّ مستشفيات مخالفة، بل وجهنا إنذارات وعمّمنا المعايير والضوابط”. وأشارت “البدوي” إلى تشكيل لجان داخل كل مرفق حكومي وخاص؛ لاتخاذ قرار القيصريّة.
هذا الجواب يتنافى مع لقاء تشاوريّ عقدته الوزارة في صنعاء (آذار/مارس 2023)، بهدف الحد من العمليات القيصريّة في المستشفيات العامة والخاصة، ووضع الضوابط اللازمة لذلك. وقتها، حذّر وزير الصحة والسكان، طه المتوكل، من زيادة عمليات القيصريّة غير المبررة، من دون الحاجة الطبية إليها.
وفي أيّار/مايو 2022، عقد البرلمان اليمني (التابع للمجلس السياسي الأعلى بحكومة صنعاء) جلسة، ناقش فيها توحيد أسعار وتكاليف العمليات الجراحيّة، ومحاسبة المستشفيات التي تجري العمليات القيصريّة من دون الحاجة إليها.
تخويف واستعجال في أحد المستشفيات الخاصة بمحافظة عمران، أخبرت إحدى طبيبات النساء والتوليد، أم هيثم (اسم مستعار)، التي بدت عليها علامات الولادة، بضرورة إجراء عملية قيصريّة عاجلة، مبررة ذلك بأن “الحبل السري مُلتوٍ على عنق الجنين، والماء من حوله قليل”. وحذّرتْ الطبيبة من فقدان الجنين إذا لم تُجرَ العملية. قررت أم هيثم الذهاب برفقة زوجها لطبيبة أخرى، لتلد ولادة طبيعية.
ويترافق هذا التخويف مع “ثقافة مغلوطة” منتشرة لدى بعض النساء، بأن القيصريّة أفضل من الولادة الطبيعية؛ من أجل الحفاظ على حجم المهبل. هذا سبب آخر أدى إلى انتشار العمليات القيصريّة، كما يرى رئيس لجنة الرقابة والتفتيش بجمعية الجراحين اليمنية، فهمي إسماعيل.
اختصاصيّة النساء والتوليد بمستشفى المكلا للأمومة والطفولة، الدكتورة منى العمودي، تؤكد أن “استعجال” الطبيب لتوفير عامل الوقت، بالإضافة إلى أن بعض الحالات التي لديها عملية قيصريّة سابقة، تقل فرصها في الولادة الطبيعية؛ كلها أسباب تؤدي إلى زيادة معدلات الولادة القيصريّة.
لكنّ آخرين يمتثلون لقرارات الأطباء، دون التأكد من دواعي إجراء القيصريّة. فالشاب محمد المسقلي (صيدلي بمستشفى الثورة بمحافظة الحديدة)، لم يتردد في الموافقة على أن تلد زوجته قيصرياً، بعد أن حذّرته الطبيبة من “تسمم زوجته ببراز الجنين، ووضع الجنين المقلوب، ونقص الماء من حوله”.
يضيف الشاب: “استسلمت للأمر كون زوجتي تتألم، وعليّ أن أوقع على إخلاء مسؤولية المستشفى إذا أردت إخراجها؛ لذا وقّعت على إجراء القيصريّة، ولكوني أعمل بصيدلية المستشفى، حصلت على مجانية العملية لزوجتي”. لكن بمجرد أن رأت طبيبة النساء والتوليد بالمستشفى ملف زوجته، وعرفت أن العملية ستكون مجانية، قالت: “سنحاول معها طبيعياً”. وبالفعل تمّت الولادة طبيعياً، وفق المسقلي.
وبالنظر إلى العمليات القيصريّة في المشافي الخاصة، نجد أن نسبتها أعلى من المشافي الحكومية، وفق ما تظهره إحصائيات الجمعية الوطنية للقابلات اليمنيات للفترة الممتدة من مطلع 2021 حتى نهاية آب/أغسطس 2022. في هذه الفترة أجرت المستشفيات الحكومية 66.5 ألف ولادة قيصريّة، تُشكل 24.5 في المئة من إجمالي الولادات البالغة 270 ألفاً.
وفي المستشفيات الخاصة، بلغت نسبة القيصريّة 37.8 في المئة (43.7 ألف عملية) من إجمالي 113 ألف حالة ولادة للفترة المذكورة. الأمر الذي يُرجعه اختصاصيّ التخدير، حمدي أبو شرقية، إلى أن “الطبيبات في المستشفيات الحكومية يرغبن في التعلم”، وفق تعبيره.
مضاعفات القيصريّة وجدت أم علياء محمد (25 عاماً)، من محافظة الحديدة، نفسها مجبرة على الخضوع لعملية قيصريّة بأحد المستشفيات الخاصة بالمحافظة، بعد أن أخبرتها الطبيبة قبل الولادة بأسبوع أن “الجنين في حالة عكسيّة”، على الرغم من مراجعاتها الدائمة التي كانت تؤكد “ولادتها الطبيعية”، من دون وجود خطر عليها أو على جنينها.
بعد ثلاثة أيام من العملية، ظهر عليها انتفاخ والتصاقات في البطن، وخروج قيح من مكان العملية. أربعة أشهر أخرى عاشتها أم علياء على المسكنات، إلا أن حالتها الصحية تدهورت أكثر، لتتعافى في الشهر الخامس من الولادة، بعد علاجات وأدوية وصفها أحد الأطباء في صنعاء.
تكررت متاعب أم علياء بعد عام ونصف، حينما حملت بمولودها الثاني؛ فخضعت لعمليتين جراحيتين: الأولى قيصريّة، والثانية تنظيف آثار القيصريّة السابقة.
طفل أم علياء أيضاً لم يسلم من مضاعفات العملية، فقد تمّ إسعافه إلى عيادة الأطفال خمس مرات، لإصابته بحمى والتهابات وتشوهات في منطقة الفخذ وحول العضو الذكري.
وتنطوي العمليات القيصريّة على جملة من المضاعفات المحتملة، مثل نزيف الجرح وتجلط الدم وتمزق الأنسجة، وارتفاع ضغط الدم والسكري، والتهاب الحوض، بالإضافة إلى الالتصاقات الرحميّة.
وتشير رئيسة جمعية القابلات بصنعاء، صباح الظافري، إلى وجود مضاعفات أخرى محتملة، كتسرب السائل النخاعي، وأوجاع في الظهر واليدين وضعف جدار الرحم، أو الشلل والوفاة كمضاعفات للتخدير.
خوف من الشكوى كفل القانون اليمني تعويضات لمن يتعرض لأيّ خطأ طبي، ويمكن المطالبة بالتعويض في حال إثبات وجود تلاعب بتحويل أمهات إلى القيصريّة من دون مبرر طبي، وفق المستشار القانوني، عبد الرحمن الزبيب. ويضيف الزبيب بالقول: “يحق للمريضة وذويها المطالبة بتعويضات ماليّة، في حال حدوث مضاعفات غير طبيعية”.
يُثبت الخطأ الطبي عبر تقديم شكوى للمجلس الطبي في العاصمة، أو تقديم شكوى لمكتب الصحة المعنيّ بالمحافظة، ليُبت في وجود خطأ طبي من عدمه، ثمّ إحالة الملف للنيابة المختصة حال ثبوت الخطأ.
لكنّ 74 في المئة من النساء (وفق الاستبيان)، لا يفضلن الشكوى عند إصابتهن أو مواليدهن بمضاعفات الولادة القيصريّة. نجلاء القباطي، واحدة من العينة المستطلعة، أرجعت ذلك إلى الخوف من المشكلات والفضيحة: “ما اشتكيت لما تأذى طفلي بسبب المشرط، لأني خفت من المشكلات مع المستشفى، فأصحاب المستشفيات لديهم نفوذ، وبندخل في مشكلات أكثر من أننا نحصل على حل”.
سيدة أخرى، فضلت عدم ذكر اسمها، قالت: “كلمت زوجي لتقديم شكوى لمّا تعرضت لمضاعفات بسبب العملية، قال لي: تشتي (تريدي) تفضحينا… ما فيكِ ولا شيء خلاص”.