مع كل حدث وحديث، تعلو أصوات وتخفت أخرى، يعلو صوت الانحيازات والضغائن، ويغيب صوت العقل والمنطق والأناة وحسن التدبير، وبينهما تسيل كمية مهولة من التفاهة والتهافت، ومن خلف كل ذلك نقف جميعا، نرمي مأرب بالحجارة والكلمات اللزجة حينا، وبالسكوت والتخاذل أحيانا أخرى. على أن مأرب ليست جمهورية أفلاطون، ولا المدينة الفاضلة، ففيها كل شيء، فيها الأخطاء والخطايا والخطاءون، وفيها السذاجة والغباء والمتحيزون، لكن قبل كل ذلك وفوقه، فيها الحرية والكرامة والنبالة وكثير من العدل، فيها الأبطال والتضحية والفداء، وفيها خيوط الفجر الوحيد التي نتشبث بها على أمل أن تشرق شمس اليمن ثانية من معبد الشمس وصفرة الرمال ونقوش سبأ في الصخور والجبال ونياط القلوب.
كل مرة، تقع مأرب في خطأ صغير، إن صح تسميته بذلك، فنتلقفه ببلاهة، ونتعامل معه باستعلاء ومبالغة، ثم يتناوله من أفواهنا المتعجرفون والانتهازيون فيذهبون للانتقام من مأرب، لرشقها بالإرهاب، للانتقاص من أمنها وجيشها، من سلطتها وسلطانها، من أهلها وسكانها، من الشهداء والجرحى، من النازحين والمشردين، ومن مكانة مأرب العالية فوق كل اعتبار حساب، والأعلى من كل انتماء، ليس لأنها مأرب، فهي كذلك منذ وقف البلق على قدميه أول الخلق، ولكن لأنها القلعة الأخيرة التي لاذ بها اليمنيون، لأنها حائط الصد الأخير الذي يقف في وجه الطوفان، لأنها غصة في حلق كل متربص، وحجر في فم كل معتل، وعود في عين كل عدو، لأنها حلمنا.
في مأرب كما في كل أرض، تعيش بعض الكائنات الهشة، الفطريات التي تنبت بين أصابع المحاربين، الطفيليات التي تتغذى على دم وأشلاء الأحرار في الشعاب والسهول والجبال وفوق الرمال وشواهد القبور، هؤلاء لهم ألف لون وألف شكل، لكن فعلهم واحد، وهدفهم واحد، وهو ضرب سكينة مأرب في العمق، مرةً باستفزاز المجتمع المأربي المحافظ، ومرات بمحاولة الانتصار للإيدلوجيا وتفرعاتها باستغلال كل ممكن، ولا فرق في الحقيقة بين من يطعن في صميم مجتمع مغلق على قناعاته، وبين من يحاول استغلال عاطفة المجتمع ودفعه للانتقام من الأصوات الانفعالية التي تثير الضجيج بالأسلوب الخطأ في الوقت الخطأ وفي المكان الخطأ.
وأنا هنا، لست ضد حرية الرأي، ولا مع قمعها ومصادرتها، أنا مع أن تراعي تلك الأصوات ظروف المكان والزمان، وحساسية المرحلة، وأن تقف الكلمة بجانب البندقية، بحيث لا تقع إلا حيث تفتح ثغرة للنور وطريقا إلى الخلاص.
لا تحتاج مأرب لمعارك كلامية على هامش معارك القرن الهجري الأول، ولا لهيئة دفاع من المحاميين والمتشددين للترافع عن ضحايا الصراعات السياسية الغابرة، بل تحتاج مأرب لبندقية القردعي، وحكمة النعمان، ورفض الزبيري، وعنفوان علي عبدالمغني، لكي تمضي في نسف الخرافة بهدوء وبصيرة، حتى تصل لتلك اللحظة التي يدرك فيها اليمنيون كم أضاعوا من السنين في سرادب الوهم السلالي وزيف التاريخ وسراب المذاهب وعتمة الجهل وهجر الجذور والتعلق في قش آل البيت الذين يمارسون دجلهم من بيننا وباسم قضيتنا بنفس الدرجة التي يخوضون بها الحرب علينا.
مأرب ليست وكرا للإرهاب، ولا مرتعا للمتطرفين، ولا هي عصا في يد الحمقى والتكفييرين، ولا لعبة بيد الاستغفاليين ولاعبي السرك الذين يثيرون الضجيج في الأسواق ويرمون المكر والخديعة بالطماطم والبيض الفاسد والاستعراض الدعي، ومأرب ليست حكرا على جماعة، ولا مزرعة لقبيلة، ولا فقاسة لحزب، وليست حوزة لآل البيت..
مأرب هي بيت العائلة الكبير، هي ملاذ المشردين، هي كعبة الأحرار، هي صلوات الشهداء، هي دعاء الأمهات، هي بياض دفاتر الأطفال في المدارس، هي بقعة النور الأخيرة في عتمة الزمن الطاريء، هي مهد السبئيين وغد اليمنين المنتظر.
دعوا مأرب في حالها، دعوها، واقفة بكل شموخها المعهود في وجه الطارئين، دعوها تكتب لكم تاريخ الكرامة بدم أهلها وساكنيها الأبطال، لا تطعنوها من الخلف بالتهريج، دعوا لكم موطأ قدم تقفون عليه وتقولون ما تريدون بحرية وشجاعة، دعوا مأرب لا تشغلوها بكم عن أعدائكم، فمأرب لا ينقصها الأعداء والمتربصين، ينقصها الرجال الذين يُجلَّون جلالها، ويتقاسمون معها الكبرياء والمجد ومواقع النجوم.
من صفحة الكاتب في "فيسبوك"