إنّ كلّ ما يحتاجه الإنسان لبدء حياة مليئة بالخطيئة هو وجود العقل الفلسفي النفعي المادي، للمضي قدماً في هذا الطريق دونما آلام، ودونما تعذيب، ودونما همٍّ أو أرق.
عندما سأل دوريان غراي اللورد هنري عن ارتكاب جريمة القتل (في رواية "صورة دوريان غراي" للكاتب أوسكار وايلد)، قال هنري إنّ على المرء ألّا يرتكب أشياء يخجل بعد ذلك من الحديث عنها إلى رفاقه في مأدبة عشاء.
جريمة القتل لا يمكن أن تختزل في تعبير كهذا الذي قاله هنري، أو الحديث عنها بمعزل عن الضمير، وهو العضو النفسي الذي ارتبط تاريخياً بالحديث عن الأخلاق، لكن في نظر الفلسفة النفعية قد يبدو القتل ضمن قائمة الأشياء التي لا تعذّب الإنسان وتحرمه النوم ليالي أو سنوات، بل في قائمة تلك الأشياء التي يخجل من الحديث عنها.
"دوريان غراي"، وهو التمثيل الحيّ لهذه الفلسفة النفعية التي كان دائماً ما يشكل اللورد هنري المرجعية لها، لم يتعامل مع الجرائم التي ارتكبها في حياته بضمير بارد ميت، وإن كان قد حاول فعل ذلك على مدى سنوات طويلة.
"صورة دوريان غراي" للكاتب الإنكليزي أوسكار وايلد، تقدّم لنا نموذجاً عن كيف يمكن أن يؤوّل العقل النفعي المادي للدمار، وكيف يمكن أن يُطيح في طريقه كلّ المعاني الإنسانية، ويحوّل الآلام البشرية إلى حالات ليست مهمة إلا للدراسة المختبرية واستخلاص النتائج.
قال اللورد هنري، وهو إحدى الشخصيات الرئيسية داخل الرواية: "إنّ الإجرام امتياز خاص، تملكه الطبقة الدنيا في المجتمع، وأنا لا ألوم أبناء هذه الطبقة، فالإجرام عندهم يقوم مقام الفن عندنا (وكان يتحدث عن الطبقة الارستقراطية)، أي إنه وسيلة لإشباع الحواس بالاختبارات غير المألوفة".
لا يمكننا الجزم فيما إذا كان أوسكار وايلد من خلال هذه الرواية قد بدا مدافعاً عن الفلسفة النفعية المادية، أو ربما حاول تصوير المدى المؤلم للحياة الذي يمكن أن تقوده هذه النظرة الفلسفية في زمن كانت تتصاعد فيه هذه الفلسفة، وهو أواخر القرن التاسع عشر، التي تجسدت بعد ذلك كبناء متكامل وفلسفة عميقة لدى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.
ورغم ذلك، أطاح اللورد هنري الطبقة الارستقراطية في ذلك العصر من خلال حواراته العميقة في الرواية، إذ كشف الخواء والنفاق الذي تعيش فيه، وكشف زيف العلاقات والمجاملات ومآدب العشاء، وقدّم صورة ناقدة للمؤسسات الاجتماعية والدينية والعادات والتقاليد، كذلك فإنه أعاد صياغة المفهوم الأخلاقي من زاوية أخرى، فهو يقول: "خير للمرء ألف مرة أن يكون له طاهٍ ماهر من أن يكون له وقار المحافظين، فلو قدم لك رجل عشاءً مؤلماً أو نبيذاً تافهاً، فكيف يعزيك أن تعرف أنّ حياة مضيفك الخاصة نقيّة لا غبار عليها؟ وإن أسمى ما في العالم من فضائل لن تعوض على الإنسان خسارته إن هو أكل لحماً لم يتمَّ تسخينه".
بعد أكثر من مائة وثلاثين عاماً على وفاته، لك الخلود يا أوسكار وايلد.
نقلا عن :العربي الجديد