عالم الروائيين المختلف

عبر قرون عدّة صدرت تعريفات كثيرة للأدب، منها ما كان يهتم بالأسلوب الفني، ومنها ما كان يهتم بالمضمون، أو الشكل، أو كلّ ذلك معاً.

تعدّدت مفاهيم الأدب بشكل كبير، وفي إحدى هذه التعريفات، يقال إنّ قائمة المشتريات التي قد ترسلها المرأة لزوجها ليجلبها معه حين يعود إلى المنزل، ربما تعدّ أدبا! فكيف تحوّل الأدب من هذه الصيغ والمفاهيم المعقدة المليئة بالقواعد كما جاءت في كتب السابقين إلى هذه المفردات اليومية، والتي قد تجعل من القيء أو السعال، أو أيّ مفردات قد تبدو منفرة،  كلمات أساسية في قصيدة أو مقالة نثرية أدبية؟

وكثيراً ما قيل إنّ قراءة قصص الحب والروايات الرومانسية العاطفية أهم من الوقوع في الحبّ، وكثير من الشعراء الذين كتبوا في دواوينهم عن المطر وجماله وروعته يختبئون عند أول قطرة حقيقية تنزل من السماء! يحبّ الشعراء المطر في القصائد والأبيات الشعرية لكنهم قد يلعنونه في الواقع، يكتب الشاعر قصيدة لتمجيد المطر، وعندما يتأهب للخروج ويأتي المطر، يقول: "اللعنة إنه المطر، يجب أن أمكث في البيت حتى ينتهي"، بما فيهم السياب الذي كتب قصيدته العظيمة عن المطر، لا أظنه كان جريئاً للتجوّل في شوارع بغداد أثناء المطر.

ولا أحد قد يصدّق أنّ الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، وهو كاتب إحدى أهم النظريات في التربية من خلال كتاب "إميل"، كان ترك خمسة من أبنائه في الملاجئ بعد ولادتهم بأيام، حتى إنه في الوقت الذي كبر سنه لاحقاً، وندم على ذلك، حاول البحث عن أبنائه ليستعيدهم، لكنه لم يتمكن، إذ كان قد محا كل الآثار التي يمكن أن تدله عليهم في يوم من الأيام.

رواية "البحث عن الزمن المفقود"، للروائي الفرنسي مارسيل بروست، عمل ضخم وعظيم يقع في سبعة مجلدات، وعند قراءته تساءلت: كيف استطاع بروست تحويل حياته التي عاشها ملايين الفرنسيين قبله وفي زمنه، ولم يأبهوا لها، إلى عمل خالد سيستمر لقرون عدّة، كيف استطاع أن يحوّل حياته اليومية وقائمة المشتريات تلك، والكعك المنزلي، والزيارات العائلية، والملاحظات التافهة، إلى أدب خالد على مرّ الزمن.

نحن البشر ندين للأدباء والكتاب في تحسين نظرتنا نحو الحياة، لقد جعلونا نرى الأشياء واليوميات والتفاصيل الصغيرة، وتلك التي يسميها التعبير العربي الشهير "سِقط المتاع"، بشكل مختلف.

أولئك الكتاب قادرون على جعلنا نرى الأشياء الكبيرة مجرّد صغائر، ونرى الأشياء الاعتيادية مظاهر عظيمة، وبهذا تنمو حساسيتنا تجاه العالم المرئي.

زار مارسيل بروست كاتدرائيات الشمال الفرنسي مرّات عدّة، وفي وقت لاحق، أشار بروست إلى كاتدرائية روان في مصابيح العمارة السبعة، وكان الشاعر الإنكليزي، جون رسكن، قد وصف تمثالاً صغيراً من الحجر نُحت مع مئات التماثيل الأخرى في المكان ذاته. لم يكن يزيد ارتفاع هذا التمثال عن عشرة سنتيمترات، كان التمثال على باب الكاتدرائية واضعاً إحدى يديه على خده.. الحديث الطويل لرسكن عن التمثال ليس نوعاً من العبث. لاحقاً، عندما زار مارسيل الكاتدرائية وقف أمام التمثال الصغير مقدّما اعتذاراً، وهو يقول "لم أكن ذكيا بما يكفي لإيجادك وسط آلاف الأحجار الأخرى في مدينتنا، إلا أنّ رسكن جعلني ألاحظ ذلك".

لهذا كان الروائي والكاتب الياباني، ناتسومي سوسيكي، يقول إن رسم لوحة عن مكان بعينه أهم في نظري من رؤية المكان ذاته.