ألبير كامو... من حي الأقدام السوداء إلى منصة نوبل

في اليوم الذي تسلم فيه الروائي الفرنسي، ألبير كامو، جائزة نوبل للآداب عام ألف وتسعمائة وسبعة وخمسين، وكان آنذاك في عمر الرابعة والأربعين، صعد إلى المنصة، وقال إنني أهدي هذه الجائزة إلى لويس جيرمان، وأضاف: ""دونك"، دون تلك اليد الداعمة التي مددتها إلى الطفل المسكين الذي كنت عليه، ودون تعليمك، ودون الاقتداء بك، لما كنت أساسا ما أنا عليه".

فشلت كلّ توقعات الحاضرين في معرفة هذا الرجل، وما الذي يحتله في سيرة الروائي الشاب الذي حصل لتوّه على الجائزة، لكن آمالهم لم تقترب أبداً من كون هذا الرجل الذي تذكّره ألبير في ذلك المكان المهيب، أن تكون لرجل ارتبط بكامو قبل أكثر من ثلاثين عاما، كان معلماً لم يأبه له أحد في مدرسة ابتدائية واسمه لويس جيرمان.

ما الذي يجعل كامو يتذكر هذا الرجل بعد ثلاثين عاماً، إن لم يكن قد حفر الرجل داخل عقل هذا الفيلسوف والمفكر والروائي منذ صغره ما يجعله خالداً لهذا الوقت الطويل.

يمرّ على الإنسان، وهو في هذه الأوقات من الأعمار التي لم يصل فيها بعد إلى مرحلة البلوغ عشرات المعلمين، قد لا يتذكرهم جميعاً، وقد يتذكر بعضهم أو كلهم، أو ينساهم جميعاً.

لهذا كان هناك اعتقاد سائد بأنّ المعلمين هم الجنود الحقيقيون للدولة الفرنسية آنذاك... والحقيقة أنّ هذا الاعتقاد صار سائداً لدى كلّ دولة أو حكومة أو شعب يعرف ما الذي يعنيه المعلم بالنسبة للجيل والمستقبل.

لم يكن هذا الإهداء هو المظهر الوحيد الذي تجلّى في نجاحات ألبير كامو الكثيرة رغم حياته القصيرة، فقد كتب كامو كتابا نشر بعد وفاته بعنوان "الرجل الأول"، وهو الكتاب الذي يحمل طابع السيرة الذاتية لكامو، وبداخله العديد من الإشارات إلى علاقته بلويس جيرمان المعلم الذي أهداه الجائزة.

اهتم لويس جيرمان بألبير كامو اهتماماً خاصاً، إذ كان يحضر إلى بيته ليعطيه دروساً خاصة دون مقابل

لم يكن جيرمان مجرّد معلم في مدرسة ابتدائية بالنسبة لكامو فحسب، وربما لبصيرة ثاقبة أو ذكاء وقّاد وعقل ملهم لمحه المعلم الذكي في تلميذه الصغير، اهتم جيرمان به اهتماماً خاصاً. كان المعلم يحضر إلى بيت كامو الفقير الذي تعيش فيه امرأتان وطفل صغير أكبر من ألبير ببضع سنوات ليعطي دروساً خاصة دون مقابل لهذا اليتيم الذي فقد أباه في الحرب العالمية الأولى كجندي للدولة الفرنسية، وعندما كبر كامو أقنع جده بضرورة إلحاقه بالمدرسة الثانوية، رغم صعوبة ذلك بالنسبة لأسرة كانت بالكاد تستطيع تدبير قوت يومها.

كان هذا الالتحاق بالثانوية صعباً إلى درجة أنّ جدته كانت تعارض تماماً هذا المصير، وفضلت مراراً بضغط غير عادي أن يذهب كامو إلى العمل ليعين الأسرة في حياتها، ولو أنّ كامو مضى في هذا المصير المخطّط له من قبل الجدة، لما كنّا رأينا "الغريب" والكثير من أعمال كامو التي ظلّت محطّ اهتمام المجتمع الأدبي والفلسفي والفكري، ليس في فرنسا وحدها بل في العالم بأسره.

هل يمكن أن ندرك إلى أي مدى يمكن أن يكون المعلم قادرا على صنع المستقبل وصنع الإنسان، وإخراج فتى من حي الأقدام السوداء في الجزائر، ليقول لفرنسا إنك تسيرين في الطريق الخطأ.