تجاوز مونديال قطر لكأس العالم ما كان متوقعا منه كحدث رياضي، إلى أن أصبح تظاهرة سياسية مثيرة للجدل لها آثارها الواضحة. ومثل كل حدث ثقافى أو رياضى لابد له من جانب سياسي. وفى كرة القدم لم تكن السياسة بعيدة دوما، بل رأينا ذلك يبرز فى محطات عدة من تاريخ هذه اللعبة التى ملأت شاشات الدنيا وشغلت الناس. ولا يمكن أن ترى الانظمة والجهات النافذة سياسيا واقتصاديا تجمعات بهكذا حشود تصل إلى مئات الملايين ولا توظفها لأغراضها وأهدافها. وحتى الأمم المتحدة نفسها أدركت وجود علاقة بين الرياضة والتنمية والسياسة. وأنشأت فى عام 2001 مكتب الأمم المتحدة للرياضة من أجل التنمية والسلام (UNOSDP).
وفى صراعات السياسة ومنذ عقود طويلة، استخدمت الرياضة بشكل أو بآخر، من إيطاليا موسلينى إلى ألمانيا هتلر وما بعدهما، لتكريس وجود سياسى معين أو صراع نفوذ وأيديولوجيات، بل إن كرة القدم صنعت هوية بلد كبير مثل البرازيل، وكانت اللعبة طريقا لتعزيز ثقافة نبذ العنصرية والقبول بالآخر، وعندما كانت رياح العنصرية تزداد فى مجتمعات أوروبا وأمريكا مثلا، كانت ملاعب الرياضة وحدها من يصنع بوتقة الانصهار لكسر الحواجز.
وفى الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا دخلت اللعبة عبر نافذة السياسة فكانت واحدة من غنائم الحرب بعد رحيل الاستعمار الأوروبي، الذى غادر وبقيت اللعبة والألاعيب السياسية بطبيعة الحال!. لذا ارتبطت عملية اللعبة بنوع من النشوة السياسية لهذه الشعوب. ويذكر مثلا أن الشارع المصرى أيام الاحتلال البريطانى كان يحتفى كثيرا بانتصار النادى الأهلى عندما يفوز على فريق المستعمر البريطاني، فتلك فرحة بانتصار رمزى يعكس رغبة جماهير الشعب بانتصار سياسي.
لذا تجد ابتهاج الأمة العربية كلها بإنجاز المنتخب المغربى فى مونديال قطر شلالا من الفرح المستمر، ولا تزال فرحة الجماهير العارمة تلك على مستوى المنطقة ككل تعبيرا عن احتياج عربى لأى نصر ولو فى مباراة لكرة القدم. والمونديال الذى حولته الساحرة المستديرة إلى تظاهرة جماهيرية أيقظت فى الأمة العربية جذوة شوق للتلاحم ومعانقة أى انتصار ولو كان نزالا كرويا!. وما يثير حقا ليس فرحة الناس من المحيط إلى الخليج بما تم من فوز كروى فقط، ولكن بهذه الروح التى جسدت التلاحم الشعبى بشكل مثير، مؤكدة ان الشارع أكثر يقظة مما نعتقد، وان روح الأمة حية ومتقدة، وتنتظر مشروعها الذى يعيد لها اللُحمة ويقيم جسور التواصل، وبوابة ذلك تعاون اقتصادى وتعزيز آفاق الثقافة أولا. وكما أظهرت أحداث مونديال قطر كل ذلك الفرح وجدنا بالمقابل روح العنصرية والتمييز من جهات وشخصيات دولية عدة ،ترى أن بطولة كهذه لا يحق أن تكون عربية أو تقام فى دولة عربية!.
وإن كنا اعتدنا خطاب العنصرية فى محافل السياسة والإعلام، فإنه صادم عندما يبرز بمجال الرياضة!. ليس لأن البراءة تسكن هذا المجال الذى يخضع كغيره لمافيا متخصصة تتحكم فيه ،بل لأن الجهر بالسوء ورفع خطاب الكراهية فى الرياضة والفن بقى دوما بعيدا عن الفجاجة. ورأينا صراحة أن جهات دولية عدة نافذة ندمت على ذهاب حق التنظيم إلى قطر، لا لشيء بل فقط لأن قطر قدمت عرضا مبهرا أحرجهم . ولا تدرى لمَ الغيرة؟! . ثم كان خطاب الكراهية أكثر وضوحا وبرز فى تصريحات تقول إنه لا يمكن القبول بفوز منتخب المغرب بالبطولة فذاك خط أحمر.
واستدعيت فى الذاكرة كل حيل مافيا الرياضة، ولكن فريق اسود الأطلس بشبابه المبدع كان قد كسب الجولة منذ وصوله إلى المربع الذهبى فى مونديال قطر.
ولأنى أتابع الأمر بعين سياسية أكثر من أى شيء آخر فيمكننى أن أقول إن إنجاز جانب السياسة بهذا السباق كان مثمرا، بالحضور العربى الواسع وردم جزء كبير من الفجوة بين الدول، ثم فى هذا الجمهور المتحلى بسلوك جميل وروح محبة صادقة، وظهور فرق عربية مميزة فى المغرب و السعودية وتونس وقطر، يمكن البناء عليها وكسر الصورة النمطية عن المنطقة العربية ومن أنها صحراء جافة من الناس والشكل، والقدرة على التنظيم . الأمر تجاوز حرب التشكيك بقدرة دولة عربية على تنظيم بطولة العالم فى كرة القدم، حيث قدمت الدوحة إنجازا تاريخيا سيُصعب الوضع على منظمين لاحقين لهذه البطولة، وفتح المجال لتقديم دول عربية أخرى عرض قدراتها المتميزة فى هذا الجانب. والأهم عودة التلاحم العربى الذى كنا نحتاجه، فقد نسيت دول وشعوب وضعها الصعب ووقفت تؤازر منتخب اسود الأطلس بإيثار لا يوصف.
قراءة نتائج ما حدث بعين سياسية ليس مبالغة، فقد هدمت نظريات عدة كانت تقول إن لا حدث يمكن أن يجمع مشاعر هذه الأمة، حتى جاء كأس العالم فى قطر وأطاح بذلك، ورأينا أهدافا تتحقق لم تكن بالحسبان،
كل الأمل أن نبنى عليها، وألا تكون أهدافا غير محتسبة بتهمة أنها جاءت فى وضع التسلل، كما يقال فى قواعد كرة القدم.
نقلا عن جريدة الأهرام