تغوّل السياسة السعودية في اليمن لا يمكن إغفاله عن أي تناولات بحثية للأوضاع في البلاد، وهو ليس ترفا يمكن استدعاؤه متى شاءت الحاجة.
نحن في مواجهة دولة عميقة في المنطقة، ولديها خزينة مال فائض له تأثير على سياسات أعظم دولة في العالم.
اليمن تعد عزلاء وفقيرة جدا في المواجهة، وقد أضحت خلال سنوات الحرب الأخيرة ملفا سعوديا خالصا بعد أن اختفت مساحات المناورة، التي كانت في عهد صالح.
لذلك لا يوجد نظام حكم في البلاد يتمتّع حتى بأدنى استقلالية في القرار بعيدا عن الرياض، باستثناء المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
منذ عقود تعمل المملكة على إغراق البلد في الفوضى، وفشلت كل السرديات لتبرير سياستها في دعم الملكيين على أنها كانت بهدف مجابهة السياسة المصرية في المنطقة فقط، وتبيّن أنها سياسة ثابتة.
لقد أيّدت المملكة ودعمت جميع الأنظمة اليمينية الموالية للولايات المتحدة، وصرفت أموالا مهولة في هذا السبيل، إلى مناطق بعيدة عن جغرافيتها.
منذ نشأتها واستقرار حكمها كانت تستنفر لحدوث أي ثورة في العالم، وتعد نفسها التالي.
من المهم التذكير بهذه السياسة حيال اليمن، لأنها سبب واضح للمأساة التي نعيشها الآن بعودة الإمامة، إلى جانب أسباب أخرى.
سيكون من الجيّد أيضا التذكير بالوثائق التي نشرتها قناة الجزيرة قبل عامين، التي تكشف بشكل واضح إستراتيجيتها في اليمن.
هذه الاستراتيجية لا يجب أن تغيب عن أعيننا لحظة، خاصة وهناك من يحاول في كل مرة استجلاب عواطف الدعم الإنساني.
تؤكد الوثائق أن هذه الاستراتيجية قائمة على تفكيك البلد، عبر دعم الكيانات المختلفة لضمان بقائها كقوة ضغط ونفوذ توازي قوة ونفوذ الدولة اليمنية.
كما توضّح الوثائق أن السعودية كانت على علم بكل تحرّكات الحوثيين قبل سيطرتهم عام 2014 على العاصمة صنعاء بأكثر من عامين.
ورصدت تقاريرها الاستخبارية نيّة وخطط الحوثيين للسيطرة على صنعاء بمساندة الرئيس علي عبد الله صالح، لكنها لم تحرّك ساكنا، وتركت مليشيات الحوثي وصالح تتقدّم وتطيح بالحكومة الشرعية.
وكشف تقرير مرفوع من رئيس الاستخبارات السعودية، في مارس 2012، عن كل تحركات الحوثيين ومناطق سيطرتهم، ومواقع تخزين السلاح، وطرق تهريبه.
وتوضح الوثائق أن الحكومة السعودية تجاهلت توصية رئيس الاستخبارات بضرورة التحرّك لمنع الحوثيين مبكرا من التقدّم، وتركتهم يصلون إلى صنعاء، ليكون هناك مبرر لشن حرب وتدمير الدولة اليمنية، وفرض التدخل العسكري المباشر فيها.
كل تفاصيل الحرب، خلال السنوات الثمان، تؤكّد ما ذهبت إليه تلك الوثائق: تفكيك اليمن وإغراقه في الفوضى.
المملكة لم تترك اليمنيين يواجهون مصيرهم بأنفسهم، أو بتدخلات عن بُعد كما كانت تفعل.
هذه المرّة، تدخلت بشكل مباشر وعبر آلة عسكرية ضخمة، وذات قدرات تدميرية مريعة، ولأهداف غير أخلاقية.
ويبدو أن ثمة تشابها إلى حد كبير بين تدخلات نظام جمال عبد الناصر لمواجهة السعودية والملكية في الستينات وبين تدخلات الرياض الآن في الأهداف، وتقديرات المعركة.
بالغ عبد الناصر في تقدير قواته المرسلة، وعمر المعركة التي طالت لسنوات، وتبيّن وقوعها في مآزق.
السعودية تواجه أو ستواجه ذات المآزق، وبسذاجة بالغة. صحيح أنها استطاعت إغراق البلد في الفوضى، لكن لن يخلو ذلك من ثمن ستدفعه من آمنها القومي.
ربما كانت تعتقد، خلال عقود خلت، أن عناصر التهديد لأمنها ستأتي من البر والسواحل، ولذلك بنت مخاوفها وترسانتها العسكرية على هذا الأساس.
الآن تجد نفسها أمام تهديد جديد يتمثل في الطائرات المسيّرة.
تجد نفسها أيضا في مواجهة المد الثوري المحيط بها من الجهات الأربع.
مهما ناورت مع طهران في المفاوضات فلن يطول الوقت كي نشهد دفقات أخرى من الهجمات المسيّرة على أراضيها.
الطموح النووي الإيراني في ذروته، وطهران لن تتخلى عن العنف والتهديد به، ودعم المليشيات.
هذه منهجية دستورها ومصدر قوتها ونفوذها الإقليمي وورقة تفاوضها في كل الأوقات.