في صباح بعيد وصل رجل وابنه إلى دمشق قادمان من بيروت. قال الأب لابنه سوف ترى اليوم صاحب الاسم الذي تحمله منذ 16 عاماً.
عندما كان فواز في بلدته أخبروه مراراً أن اسمه جاء من اسم صديق والده، وهو أحد أمراء بادية دمشق فحمّسه ذلك وتخيل أشكالاً عدة للرجل وللهدايا التي سينالها حين يراه مقابل ان الاثنين يتعاونان في حمل أربعة أحرف لها شتاتها الخاص في سلم الهجائية.
لكنه رأى أميراً محطماً عليل الصحة رؤيته مخيبة للآمال
ومنذ ذلك اليوم انقطعت ًصلة فواز بالأمراء واعتاد على خيبات الأمل التى لم تعد مفاجأة له " أميري العربي لم يهدنِ فرساً كما حلمت " بعد أزيد من ستين حولاً سيسأل فواز "هل لا تزال تحب اسمك "؟
يبتسم ونحن معاً نطوف شوارع اسطنبول دون أن يجيب، ثم ستحضر فقط خيبة الأمل تلك والحديث يدور عن أحوال مدن أخرى.
تتحول الخيبات إلى ينبوع في الممر القاحل. لقد أحب فواز طرابلسي أن تكون قصة اسمه مفتتحاً لكتابه "صورة الفتى بالأحمر"، كتاب قالت عنه مجلة الدراسات الفلسطينية في العام 1998 إنه " سيرة ذاتية تفصح، أيما إفصاح، عن قدرة أدبية لافتة لكنها مخبوءة "
ولكن لا أعتقد أنها مازالت كذلك. أخرج طرابلسي دفتراً صغيراً من جيبه عليه دوّن أهم الأماكن التي يرغب زيارتها في المدينة.
وفي أول صفحة يوجد اسم متحف البراءة الخاص بالروائي أورهان باموق.
الصفحة الاولى دائماً هي الوجهة الحقيقة، ومادام قد دوّن شيئاً عن الرواية فقد عاش نزاعاً بين الأدب والسياسة، قبله كان قد تردد في بداياته الجامعية بين دراسة الرسم ودراسة الاقتصاد،
وربما هذه من المشتركات بينه وبين الكاتب الذي يريد زيارة متحفه.
يقول أورهان في تعريف مقتطف عنه " لن أغدو رساما، سأكون كاتبا"
وربما مردّ ذلك إلى أن النزاع بين الفنون متأصل داخل كل ذات، فكثيرا ممن بدوا الشعر سابقاً نراهم الآن وقد مالوا إلى القصة أو الرواية.
نسير معاً داخل المتحف الجميع يعيشون هاجس أن تصدر أقدامهم صوتاً على الأرض فيرفعونها بخفة ولكن ليست كخفة رجل في الرابعة والثمانين من عمره.
جزءٌ كبير من تلك السنون عاشها طرابلسي للنضال والتنقل بين فروع الحزب الاشتراكي في دول شتى وبين التوثيق للحركات الثورية والثورات الكاملة والمجزأة في البلدان العربية.
أول مرة حط فيها فواز طرابلسي في اليمن كانت في التاسعة والسبعين من القرن الماضي، وكان علي سالم البيض هو رفيق تلك اللحظة وإلى حين، لكن بمجرد أن يرد اسم البيض الآن يجرف معه قصة وزير الدفاع الذي كان جيشه يمتلك طائرات ورثها عن الاستعمار البريطاني ثم تمت إحالتها إلى التقاعد لأن الوزير لا يريد بقايا الاستعمار أن تعمل ففقد بذلك سيطرته على الجو بقيت متوقفة في مرابضها إلى أن صدأت.
في الخطوات بين شوارع اسطنبول حضرت أسماء كثيرة بالإضافة إلى عمر البناء وهو فنان لم تصغِ له مدينة، كل شيء فيها يعمل بأعلى صوته أن يسمعها ما لديه وقد جاهد على الوقوف أمام مسارح وإن بدت منصاتها خفيضة هنا.
حضر أولئك البعيدون إلى خطوبنا لكن جار الله عمر لم يغادرنا مطلقا، كان يتنقل بين كلمات فواز بين الشمال والجنوب كما لو أنه منح صلاحيات فوق ما يمتلكها الهدهد
حريصا على تبسيط السير وردت أسماء ماتزال حاضرة فينا شباب هم وجه اليمن الحاضر وربما مستقبله فإلى جانب الكتب لابد أن تحضر علاقة البشر المسافة التي تقطعها الحروف، لابد أن تعمّدها أقدام المارة ميساء وفارع وهدى وماجد و"جمال ذاك ابني".. ويضحك موردا قصة زفاف شاب يمني في بيروت أراد أن يكون فواز طرابلسي حاضراً معه أمام أسرة لبنانية، وقد فعل وقام بدوره كما لو كان والد جمال المتوفي حاضراً.
اولئك الذين أقاموا في جنوب اليمن إبان حكم الحزب الاشتراكي أصبحوا جزءًا من نسيج البلد " مطعم يمني وتريدون أخذي إلى غيره ؟" يقول طرابلسي مستغربا من تعدد مقترحاتنا.
وقت هاتفنا بشير البكر من باريس حيث درجة الحرارة فرضت شروطها عليه "اذهبوا إلى مكتبة الشبكة العربية خذوا لفة في الفاتح هناك ستجدون حيا قريبا منكم".
وقد طفنا حول الأحياء القديمة ثلاثتنا لكل واحد منا تصوراته عن الحي، يقول عمر "بالقرب من هنا استديوهات تسجيل أغانِ وقد سجلت فيها عدد لا بأس به".
أما طرابلسي فيضع نظرة حيث مر من قبله قبل قرن رجل أسمه أحمد فارس الشدياق "هذا أبو الرواية"، ثم صرنا نتحدث عنه جاء الرجل إلى هذه المدينة وأقام فيها منقباً بين علومها وبين علاقته مع السلاطين.
خلف الشدياق ثروة لغوية إلى حد أنك تتوه وسط مرادفاته
حتى تظن إنك ما تزال تحبو في هذه اللغة يكفي الساق على الساق وهو كتاب أنجز عام 1855 أن يفتح لك باباً ما كنت تدري ما وراءه وسوف تحيل كثير من كتاب عصرنا إلى ذلك الكتاب أو تلك الرواية كما عدها كثر بينهم طرابلسي.
عاش الشدياق وسط نزاع استمر حتى وفاته
"ونقل جثمانه من اسطنبول على باخرة نمساوية حملته إلى لبنان وسار خلفه حملة الرايات، ومشايخ الطرق أمامه.
وهم يهللون ويكبرون.
وسار وراءه المفتـــي و العلمـاء "
فتاة متحمسة تعلّق على صدرها علماً يبعث الحنين عند جيل فواز في مؤتمر قومي، لفتت الانتباه ومن خلال أحاديث مطولة دوّنت بشرى المقطرى كتابها "فواز طرابلسي جنوب اليمن في حكم اليسار" وفيه الكثير من الاحداث التي غيّرت وجه عدن وملامح الجنوب.
وقد قال طرابلسي انه سيصل عبر الشاشة إلى جمهور أوسع قاصدا جمهور قناة بلقيس التي ستقدم مقابلات هذا الرجل كما لو كانت هدية لجمهورها يرون من خلالها الكثير من المصائر، وقد أشاد طرابلسي بمستوى الإعداد لما يراد إظهاره قريباً عبر الشاشة لاحقا في الشاهد مع أحمد الزرقة لأسابيع متتالية.
في اليوم الثالث لجولتنا معاً قررت أن أفشى لطرابلسي سراً ظل معي من الجولة الأولى قلت سأخبره أين كانت تنتهي أفكاره التي أراد لها أن تجوب اليمن والوطن العربي.
قررت أن أخبره أن رجلاً يحمل البندقية هو من واجه تلك الافكار ليس لذاتها بل لأن معتنقيها حملوا البندقية أيضا وقتلوا أول شيخ مسن بمجرد أن قال لهم اسمه وهو يضع حبوب الذرة على تراب دفن فيه فوراً.
قال لهم اسمه فردده أحدهم وتلونت الأرض بلون أكرهه.
عند أطراف القرية حمل رجل بندقية وأراد لأفكار طرابلسي وجار الله وسالمين وفتاح وقبلهم ماركس ولينين أن تلقى مصير المزارع كان هذا كل ما يعرفه عن حزب كان يدعو للمساواة التي سعت إليها كل الأديان بجوهرها.
لم يكن موقفاً صارماً بل رد فعل على موت صاحب الاسم ومن تبعه من القرى المجاورة.
كان ذلك الرجل أبي وهو الآن يتحرك بصعوبة جوار داره وقد باع بندقيته مطلع الشهر سخرية من تلك الأيام ومن شقاوتها.
لقد كان يحارب افكارا لم يصله منها غير حملة البنادق وقد قاتل اليمني كل قادم يسبقه سهمه
واكرم كل صاحب قول جزل.
يقول الدكتور دومينيك فليتمان، أستاذ جيولوجيا الزمن الرابع في جامعة بازل السويسرية صاحب أحدث دراسة عن وصول الإسلام إلى اليمن أن الفرد من أهل حمير أسلم وهو في أضعف أحواله
أسلم حين جفت أرضه وتوقفت السماء ثلاثون عاما عن فتح أبوابها
أسلم وقد تفرق قومه فبحث عن ما يجمعه بهم من جديد " الإسلام وحده وفر ذلك "
"كان السكان يعانون من مصاعب كبيرة نتيجة الجوع والحرب.
كان هذا يعني أن الإسلام قابل أرضا خصبة: كان الناس يبحثون عن أمل جديد، شيء يمكن أن يجمع الناس معا مرة أخرى كمجتمع. الدين الجديد قدم هذا لهم".
على مدى يومين وأنا أنوي أن أخبر طرابلسي أن أبي قاتل أفكاره لكن ما قيمة التاريخ وقد صرنا تلميذا يسير جوار معلم له 20 مؤلفا ومئات الأقوال وجميعها تسعى لخلق فكرة واحدة المساواة.. وها أنا أقول ذلك رغم أن اليوم الثالث لم يجي وقد كنت دائما على خلاف مع اليوم الثالث.