على مدار عقود من المواجهة، سخّر زعيم حركة حماس يحيى السنوار سنوات عمره منذ أن كان شاباً صغيراً في مقارعة الاحتلال، حيث بدأ مسيرته في مطلع الثمانينيات في صفوف تنظيم الإخوان المسلمين في غزة ورئيس كتلته الطلابية في الجامعة الإسلامية، ليكون بعدها أحد أبرز مؤسسي جهاز المجد الأمني، ومن ثم أحد أبرز مؤسسي كتائب القسام التي ستأخذ أطواراً مختلفة لاحقاً.
دخل الرجل السجن شاباً وخرج شيّباً بعد أكثر من 20 عاماً، فهم فيها العدو جيداً واستعد لمعركته الطويلة التي سيخوضها بعد 12 عاماً من تحرره من السجن عام 2012 في صفقة "شاليط"، ليقضي شهيداً في معركة طوفان الأقصى التي أطلقها وقدم نفسه كجندي فيها حاملاً جعبته وممتشقاً سلاحه ومقاتلاً حتى آخر رمق برغم جراحه البليغة.
وفي كل مرة من المواجهة فشلت "إسرائيل" في توقع السنوار، الذي أصبح "شبحاً مرعباً" يطارد الإسرائيليين، فتجد الصحافة الإسرائيلية تكتب عن الرجل بخليط من الرهبة والخوف والإعجاب به ويحاولون التهرب من هذا الإعجاب والخوف عبر محاولة تشويهه وشيطنته، ولكن واحداً من الخبراء النفسيين في "إسرائيل" لخص الأمر ببساطة ووضوح، قائلاً إن "السنوار تلاعب بالإسرائيليين لسنوات، وقد انتصر هو وحماس في الحرب النفسية".
كيف فكّر السنوار وفهم "إسرائيل"؟
تمكن السنوار من خداع "إسرائيل" والتلاعب بعقول قادتها على مدى عقود، تكمن قوته في فهمه العميق لعقلية الإسرائيليين ونقاط ضعفهم، وهو الأمر الذي جعله يتفوق عليهم نفسيًا وعسكريًا في مرات عديدة. يقول البروفيسور الإسرائيلي رافي كارسو، وهو أستاذ في طب الأعصاب وله برنامج إذاعي وعمود للاستشارات الصحية في صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، إن حركة "حماس" تقدم نفسها للعالم في صورة الحركة الساعية للسلام بما تنشره من صور الإفراج عن المحتجزين لديها وهم يلوحون بتحيات الوداع لمقاتليها.
ولكن خالف كارسو المذيعين الإسرائيليين الذين يزعمون أن يحيى السنوار، مختل عقلياً، فهو يرى أن شخصيته معقدة، وأنه أبعد ما يكون عن الغباء. وأشار كارسو إلى أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية تتهم السنوار بالاضطراب العقلي طوال الوقت، مع أنها لا تقدم شيئاً يثبت ذلك، ولا تستند إلى فحص موثوق لإطلاق هذا الزعم.
ويرى البروفيسور الإسرائيلي أن ذلك ربما يرجع إلى أن السنوار يدير حرباً نفسية ناجعة على إسرائيل، وقد تعلم هو ورجاله أن ينفذوا إلى أدمغة الإسرائيليين وأدمغة العالم أجمع بعد أن تمكن من شن المفاجأة تلو المفاجأة، وزراعة القلق فيهم، وهو لا يزال ناجحاً في اختراق أدمغة الناس في إسرائيل بعد أسابيع من الحرب.
ويستدل كارسو على كفاءة الحرب النفسية التي يشنها السنوار ببعض الجمل التي يستخدمها المذيعون الإسرائيليون في الحديث عنه، مثل أنه "تركنا بلا هواء ولا منفذ"، و"دمَّر أعصابنا"؛ "جعل إسرائيل كالخليط على الـمِرجَل"، والخلاصة أن الإسرائيليين صاروا ألعوبة بين يديه، حسب الطبيب الإسرائيلي.
عندما سُجن يحيى السنوار في السجون الإسرائيلية عام 1988 بتهمة قتل عملاء متعاونين مع إسرائيل، لم يكن ذلك نهاية تأثيره بل بداية لتعزيز فهمه لعدوه. في السجن، تعلم السنوار اللغة العبرية وبدأ في دراسة المجتمع الإسرائيلي، مما مكنه من فهم عقليتهم بشكل أعمق. أثناء سنوات سجنه التي امتدت لأكثر من عقدين، أصبح السنوار أحد أبرز قادة الحركة الأسيرة الفلسطينية، وأثبت أنه يتمتع بقدرات قيادية بارزة وشخصية قادرة على التنظيم والتخطيط.
خلال فترة اعتقاله الطويلة والتي أصبح فيها الرجل الأول من قيادات حماس في السجون، كان السنوار مشاركًا رئيسيًا في صياغة "وثيقة الأسرى" التي تمثل اتفاقًا سياسيًا بين الفصائل الفلسطينية، وقدمت الحركة فيها موقفًا يدعم حل الدولتين بشكل مبدئي، مما ساعد في إقناع الإسرائيليين بأنه رجل يمكن التفاوض معه وأنه يميل إلى السلام. ولكن في الواقع، كان السنوار يستعد لمواجهة أشد عنفًا وقوة وبأساً.
يوصف السنوار أحياناً بأنه واحد من أكثر قادة حماس معرفة بـ"إسرائيل". قبل عقود عندما حكمت عليه محكمة إسرائيلية بالسجن مدى الحياة أربع مرّات (مدة 426 عاماً)، كان ردة فعله دراسة اللغة العبرية وقراءة جميع كتب مؤسسي الدولة ومذكراتهم.
وقال ميخا كوبي، الذي استجوب السنوار لصالح جهاز المخابرات الشاباك، قد قرأ جميع الكتب التي صدرت عن شخصيات إسرائيلية بارزة مثل فلاديمير جابوتنسكي ومناحيم بيغن وإسحاق رابين، "لقد تعلمنا من الأسفل إلى الأعلى".
بعد خروج السنوار من عملية جراحية في رأسه التي أجراها في عام 2004، أجرى مقابلة في السجن مع الصحفي الإسرائيلي يورام بينور ، تحدث فيها عن "إمكانيّة إيجاد هدنة"، وعن "إدراكه لقوة إسرائيل النووية". كل ذلك كان خداعاً طويلاً من الرجل الذي أتقن اللعب مع الإسرائيليين وجعلهم لا يفكرون كثيراً في إبداء موافقتهم على اسمه ضمن الأسرى الذين طالبت حركة حماس بهم في صفقة شاليط.
بعد إطلاق سراحه في صفقة تبادل الأسرى عام 2012، نجح السنوار في إقناع العديد من الإسرائيليين بأنه قائد براغماتي يميل إلى التهدئة والتركيز على تعزيز حكم "حماس" في غزة. بل إن بعض المسؤولين في إسرائيل، ومنهم صحفيون مثل أولئك الذين كتبوا في صحيفة Jerusalem Post، رأوا أن السنوار هو "الزعيم الذي يمكن التفاوض معه".
غير أن السنوار في الواقع كان يخطط منذ اليوم الأول الذي خرج فيه من السجن لتنفيذ عملية نوعية تستهدف "إسرائيل" بشكل غير مسبوق، وهي عملية "طوفان الأقصى" التي أحدثت صدمة هائلة في الداخل الإسرائيلي.
أصبح السنوار عضو مكتب الشورى السياسي لحماس بعد خروجه من السجن، وانتخب عام 2017 كقائد لحركة حماس في غزة، واعيد انتخابه بفوز كبير خلال عام 2021 ليصبح الرجل الأول في القطاع، حيث كان مسؤولاً عن الملف العسكري داخل المجلس السياسي للحركة، واستطاع كسر الحواجز بين الجناحين السياسي والعسكري وكان حلقة الوصل بينهما.
كان السنوار -ببدلته التي لا يستطيع تحمل ارتدائها كما يقول في أحد اللقاءات الصحفية- خلال سنوات رئاسته لحركة حماس، يخدع "إسرائيل" طوال هذه السنوات، محاولًا إقناعهم بأنه يسعى إلى التهدئة وتحقيق الرفاه للفلسطينيين وإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية مقابل عدم الانخراط في الحروب مع "إسرائيل" كما حدث في مواجهات عدة بين حركة الجهاد الإسلامي والاحتلال خلال السنوات الأخيرة، حيث ظن الإسرائيليون أن الرجل لا يريد الحروب وتم تحييد حماس عن الدخول في أي مواجهة، بينما كان يخطط لهجوم غير مسبوق. ومن خلال الحرب النفسية التي شنها عبر وسائل الإعلام والمواقف العلنية، تمكن الرجل من خداع "إسرائيل" حتى جاءت المفاجأة صباح السابع من أكتوبر 2023.
مفاجأة طوفان الأقصى
في السابع من أكتوبر 2023، كان السنوار والقائد العسكري لكتائب القسام محمد الضيف قد وضعا الخطط التي استهدفت ضرب العمق الإسرائيلي بشكل لم يسبق أن تعرضت لضربة مثله.
المفاجأة الكبرى كانت أن "إسرائيل"، رغم كل أدواتها الاستخبارية المتقدمة، لم تستطع التنبؤ بهذه العملية. بل تقول التقارير الإسرائيلية أن السنوار تمكن من التلاعب بأجهزة التنصت الإسرائيلية وجعلها تعتقد بأنها تسيطر على الوضع، بينما كان هو يعد لهذا الهجوم الكبير.
أطلق الرجل عملية طوفان الأقصى ووجه ضربة غير مسبوقة لدولة الاحتلال، وتمكن من تنفيذ هذه العملية بنجاح، يقول المحققون والمحللون الإسرائيليون أنهم يعرفون السنوار بأثر رجعي، ويقولون إن هدفه الأوحد "تدمير إسرائيل"، بعد أن أصبح أكثر الرجال المطلوبين في "إسرائيل" في معركة طوفان الأقصى؛ ويشير إليه بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، على أنه "رجل ميت يمشي على الأرض"، واحتفل الإعلام العبري في اكتشاف "حذاء السنوار" خلال العملية العسكرية التي شنها على مدينة خانيونس.
اتهمت دولة الاحتلال السنوار بأنه كان يدير الأمور من خلف الكواليس، واعتمد على نظام متكامل من الأنفاق والاتصالات السرية لإخفاء تحركاته. وفشلت "إسرائيل" على مدار عامل كامل في الوصول إليه أو إيقافه رغم المراقبة المكثفة التي كانت تقوم بها وكانت أمريكا ودول أوروبية يساعدون تل أبيب فيها على مدار الساعة.
ومنذ بدء العملية البرية على قطاع غزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نشر الجيش الإسرائيلي تسجيلات تظهر قائد حركة حماس داخل أحد الأنفاق، فيما تفاخر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 6 ديسمبر/كانون الأول 2023، خلال اجتياح خان يونس، بوصول الجيش إلى منزل السنوار ومحاصرته، لكن لم يتم الوصول إليه.
ونقلت صحيفة "نيويورك تايمز"، عن أربعة مسؤولين إسرائيليين أنه على مدى أكثر من عام، خصصت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بدعم من الولايات المتحدة موارد هائلة وجمعت أكواماً من المعلومات الاستخباراتية في مطاردتها ليحيى السنوار، وتم تشبيهه بأنه أحاط نفسه بعشرات الأسرى الإسرائيليين لحماية نفسه والتفاوض عليهم داخل أحد الأنفاق في عمق الأرض، لكن في النهاية، اشتبك الرجل بشكل غير متوقع أثناء عملية تمشيط اعتيادية في جنوب غزة، يوم 17 أكتوبر 2024.
المواجهة الأخيرة: السنوار يقاتل على الأرض!
في المواجهة الأخيرة التي استشهد فيها السنوار في منزل بحي تل السلطان برفح يوم الأربعاء 16 أكتوبر، فوجئت "إسرائيل" بأن السنوار لم يكن مختبئًا في الأنفاق كما كان يتوقعونه، بل كان يقاتل على الأرض مباشرة مع جنوده. هذه المفاجأة كانت صادمة للقادة الإسرائيليين، حيث أظهر السنوار شجاعة وتصميمًا على البقاء مع قواته حتى النهاية، في مشهد لم يتوقعه العدو
المسؤولون الإسرائيليون قالوا إن الوحدة كانت في دورية جنوب قطاع غزة يوم الأربعاء، حينها صادف الجنود مجموعة صغيرة من المقاتلين، واشتبكوا معها بدعم من طائرات بدون طيار. وفي تبادل لإطلاق النار، استشهد المسلحون الفلسطينيون الثلاثة، بعد إطلاق قذيفة مدفعية على المبنى الذي احتمى فيه المسلحون، وبعد ذلك وخلال عملية تفتيش، لاحظ الجنود أن إحدى الجثث تشبه زعيم حماس بشكل كبير.
أقر جيش الاحتلال على لسان المتحدث باسمه دانيال هاغاري، بأن قتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار كان "بمحض الصدفة"، حيث قال: "لم نكن نعرف أنه موجود هناك، في البداية تعرفنا عليه بوصفه مسلحاً داخل أحد المباني، وشوهد وهو ملثم يلقي لوحاً خشبياً نحو الدرون (الطائرة المسيرة) قبل ثوان من مقتله".
استشهد السنوار مرتدياً جعبته وحاملاً سلاحه مشتبكاً مع جنود الاحتلال فوق الأرض، وصدم الإسرائيليون بأن هذا الرجل الذي يعد زعيماً لحركة مقاومة فلسطينية يقاتل بنفسه وهو يرتدي زيه العسكري، ويرمي بما وجد أمامه على "درون" جيش الاحتلال كانت تتعقبه داخل المنزل المدمر الذي قصف فيه، حيث كانت يده اليمنى تنزف، بينما يقاوم حتى النهاية في يده الأخرى، في مشهد أسطوري قلما نظيره لزعيم سياسي، أظهر الرجل للعالم قدرته على مواجهة "إسرائيل" ليس في السياسة بل على الأرض أيضًا، وكان السنوار كما كان دوماً، يسبق الاحتلال بخطوة، ولم يكن متوقعاً حتى في مماته ومواجهته الأخيرة.