بعد أسبوع من جولات التفاوض التي استضافتها القاهرة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، غادرت الوفود الرسمية من جانبي الصراع دون تحقيق أي تقدم يذكر، إذ لا تزال كل من إسرائيل و"حماس" يختلفان حول عدد من القضايا الشائكة بما في ذلك المطالب الإسرائيلية للاحتفاظ بوجود عسكري في محور فيلادلفيا، الذي يمتد على طول حدود غزة مع مصر.
قضية الوجود العسكري في محور "فيلادلفيا" التي هيمنت على المحادثات خلال الأسابيع الأخيرة الماضية تلقى معارضة، ليس من "حماس" فحسب بل مصر أيضاً. فمنذ الاقتحام العسكري الإسرائيلي لمدينة رفح من الجانب الفلسطيني يثير المحور توترات بين القاهرة وتل أبيب، التي تسيطر على الممر الذي يمتد بطول 14 كيلومتراً على الحدود المصرية، منذ مايو (أيار) الماضي.
تفاؤل وإيجابية
في حين يصر المسؤولون الأميركيون في تصريحاتهم على إضفاء شيء من التفاؤل في شأن قرب التوصل إلى اتفاق فإن التصريحات من جانب حركة "حماس" تبدو سلبية ومضادة، ومن جانب إسرائيل تبدو عنيدة تتمسك بما هو مثار خلاف، بينما تبدى التعليقات الصادرة من مصر لهجة دبلوماسية خالصة تتمسك بالحاجة إلى إنهاء معاناة الفلسطينيين في غزة، مع تأكيد رفض استمرار الاحتلال الإسرائيلي للقطاع. لكن الأسبوع الماضي، برز ما يمكن أن يوحي بحلحلة داخل الموقف المصري في شأن الخلاف مع إسرائيل في ما يتعلق بمحور فيلادلفيا، وربما يكون ذلك عاملاً في التفاؤل الأميركي حيال المفاوضات الجارية منذ أشهر.
وخلال الأسبوع الماضي، سلم وفد التفاوض الإسرائيلي القاهرة خرائط مقترحة لتموضع القوات الإسرائيلية في قطاع غزة ومحور فيلادلفيا. وفي حين رفض الوسطاء المصريون في البداية الخرائط التي عرضتها إسرائيل في شأن وجود قوات للجيش على طول محور فيلادلفيا واتفقت معهم الولايات المتحدة في هذا الرفض، وفق التقارير الصحافية التي نشرتها الصحافة الإسرائيلية، طالب كل من المفاوضين المصريين والأميركيين بـ"نسخة معدلة" وهو ما استجاب إليه الجانب الإسرائيلي. وفي أعقاب ذلك تحدثت مصادر رسمية للصحافة الأميركية حول مناخ أكثر إيجابية في شأن المحادثات التي اتخذت طابعاً فنياً في شأن مناقشة الخرائط التي تحدد أماكن انتشار الجيش الإسرائيلي.
جدل المنطقة (د)
وفي أعقاب سيطرة إسرائيل على محور فيلادلفيا تحدث كثر عن انتهاك اتفاق كامب ديفيد، وتعالت الأصوات في مصر منددة وداعية الحكومة المصرية للانسحاب من المعاهدة التاريخية، لكن قوبلت هذه الدعوات بصمت رسمي. وخلال الأسبوع الماضي وتزامناً مع زيارة الوفد الإسرائيلي ووزير الخارجية الأميركي توني بلينكن لمصر، ذكر المذيع والصحافي المصري أحمد موسى المقرب من السلطة أن محور فيلادلفيا لا يقع ضمن نطاق المنطقة (د) التي تنص عليها اتفاقية كامب ديفيد، وأوضح في برنامجه التلفزيوني أن المنطقة (د) تقع داخل إسرائيل بينما محور فيلادلفيا يقع داخل غزة وهي ليست أراضي إسرائيلية.
وعرض الإعلامي المصري خريطة تفصيلية توضح النقاط التي ينطوي عليها المحور الأمني في اتفاقية كامب ديفيد، والتي تظهر النقاط "أ، ب، ج" التي تقع داخل الحدود المصرية والنقطة (د) التي تقع داخل الحدود الإسرائيلية مقتطعاً منها محور فيلادلفيا، وأشار إلى أنه تابع لقطاع غزة ولا تنطوي عليه معاهدة 1979. وقال "هذا المحور لا علاقة له بمصر وهو أرض فلسطينية"، مشدداً بالقول "لا يخضع محور فيلادلفيا للمنطقة (د) الموجودة في الاتفاق بيننا وبين إسرائيل".
عندما وقعت معاهدة السلام "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل خلال عام 1979 كانت المنطقة الأمنية والعازلة الممتدة من البحر المتوسط شمالاً إلى معبر كرم أبو سالم جنوباً بطول 14 كيلومتراً، والمعروفة باسم "ممر فيلادلفيا" تحت سيطرة إسرائيل من ناحية الأراضي الفلسطينية، وتدخل ضمن نطاق المنطقة (د) التي تنطوي على انتشار عسكري خفيف، ولم تسمح الاتفاقية بوجود قوات مسلحة مصرية من ناحية الأراضي المصرية، تلك المنطقة التي أطلق عليها (ج). غير أنه بموجب خطة "فك الارتباط" انسحبت إسرائيل من قطاع غزة وتم تسليمه للسلطة الفلسطينية خلال أغسطس (آب) 2005، مع احتفاظ إسرائيل بوجود عسكري في "محور فيلادلفيا"، وخلال سبتمبر (أيلول) من العام نفسه وقعت مصر وإسرائيل "اتفاق فيلادلفيا" أو في ما يعرف بـ"اتفاق المعابر" الذي انطوي على تعديل لعدد القوات المصرية الذي تسمح به اتفاقية السلام في المنطقة ومن ثم زيادة عدد القوات من 450 إلى 750 جندياً مصرياً على ذلك الشريط الحدودي بهدف مكافحة الإرهاب وعمليات التهريب.
شروط مصرية
التأكيدات المصرية غير الرسمية بعدم وجود محور فيلادلفيا داخل المنطقة (د) يعني أن الوجود الإسرائيلي في المحور لا يتعارض مع اتفاق كامب ديفيد. وقال مصدر مطلع لـ"اندبندنت عربية" إن الحديث عن أن محور فيلادلفيا لا يدخل ضمن نطاق اتفاق كامب ديفيد "ربما يكون محاولة لجس النبض أو التمهيد". مشيراً إلى أن القاهرة منفتحة بالفعل على تفاهم ما في شأن حجم القوات الإسرائيلية التي يمكنها البقاء في المحور مقابل عقد اتفاق لوقف إطلاق النار في ظل الأزمة الإنسانية المتفاقمة داخل القطاع، لكن بشرط وجود ضمانات أميركية بالانسحاب خلال مدى زمني قصير.
لكن نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية محمد إبراهيم الدويري أكد في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن الحديث عن وجود قوات إسرائيلية بأعداد معينة يمكن أن تقبل بها مصر فهو "حديث من قبيل استهلاك الوقت لأنه يتناقض مع موقف مصر"، مضيفاً بالقول "إن الموقف المصري واضح تماماً تجاه أن الانسحاب الإسرائيلي من محور فيلادلفيا يعد أحد أهم المفاتيح للتوصل إلى الهدنة، وما دامت إسرائيل ترى غير ذلك فإن فرص الوصول إلى الهدنة المنشودة تبتعد".
وأوضح الدويري أن محور صلاح الدين "فيلادلفيا" الموازي للحدود المصرية "يقع كاملاً داخل الأراضي الفلسطينية في القطاع وليس له أية علاقة مباشرة بالمنطقة (د) التي تقع كلها داخل أراضي إسرائيل فقط (وليس أراضي غزة)" و"هى منطقة محددة القوات وبها قوات متعددة الجنسيات للمراقبة كما ورد في الملاحق الأمنية بالمعاهدة أسوة بالمناطق الموجودة في سيناء وهي ’أ، ب، ج‘". وتساءل مستنكراً "لو كان محور فيلادلفيا داخل المنطقة (د) هل كانت إسرائيل انسحبت منه منذ عام 2005 وحتى أشهر قليلة مضت؟ أي هل يمكن لإسرائيل التي ما زالت تحتل أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان منذ نحو 60 عاماً إلا ثلاثة أن تترك محور فيلادلفيا (الذى يفترض جدلاً أو زعماً أنه منطقة "د") في أياد فلسطينية لمدة نحو 19 عاماً؟".
لكن يقول المتخصص في مجال العلوم السياسية بجامعة القاهرة والبرلماني المصري السابق عماد جاد إنه عندما وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية كامب ديفيد كانت الأخيرة تحتل قطاع غزة، بالتالي كانت تنطبق عليها البنود المتعلقة بالمنطقة (د) ويضيف "بما أنها أعادت الاحتلال فإننا نعود لاتفاق 1979 بأن المنطقة (د) لا يجوز زيادة القوات فيها إلا بالاتفاق مع مصر.. وهو ما قامت إسرائيل بتجاوزه".
تفاهم ورفض
يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن السيطرة على منطقة الحدود المصرية ضرورية لمنع "حماس" من تجديد ترسانتها من خلال أنفاق التهريب، وإن إسرائيل في حاجة إلى "آلية" لمنع المسلحين من العودة إلى الشمال الذي أصبح معزولاً إلى حد كبير منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، كما يرغب في الحفاظ على نقاط التفتيش على طول ممر نتساريم لفحص النازحين من غزة العائدين إلى ديارهم شمالاً من المناطق الجنوبية، حتى لا يتمكن الإرهابيون أو الأسلحة من شق طريقهم إلى المناطق التي تم تطهيرها من "حماس" وغيرها من الجماعات، وفق نتنياهو.
ووفق صحيفة نيويورك تايمز الأميركية فإن إسرائيل قلصت عدد المطالب خلال الأيام الأخيرة بما في ذلك تقليص عدد نقاط التفتيش، لكن "حماس" رفضت هذه المطالب التي لم يعلن عنها إلا خلال الأسابيع الأخيرة ولم يرد ذكر لاحتفاظ إسرائيل بالسيطرة على الممرين ضمن المسودات السابقة لمقترح وقف إطلاق النار. وأخيراً، اقترح وفد التفاوض الإسرائيلي إنشاء ثمانية أبراج مراقبة على طول محور فيلادلفيا بينما سعى الوسطاء الأميركيون للضغط من أجل تقديم تنازلات من خلال اقتراح تقليص عدد الأبراج إلى اثنين، وفق تصريحات مسؤولين مصريين تحدثوا لصحيفة وول ستريت جورنال. ومع ذلك، رفضت مصر كلا المقترحين مؤكدة أن أي عدد من الأبراج من شأنه أن يمنح الجيش الإسرائيلي وجوداً دائماً داخل المنطقة.
وفي هذا الصدد أشار مصدر آخر إلى أن مصر ترفض الطلب الإسرائيلي باستمرار الوجود العسكري في فيلادلفيا، ليس فقط لأنه ربما يشكل انتهاكاً لاتفاقية كامب ديفيد الموقعة عام 1979، لأنه في نهاية المطاف يمكن الاتفاق بين الطرفين في شأن أي وجود عسكري في المناطق منزوعة أو مخففة السلاح مثلما حدث عام 2021 عندما زادت مصر عدد قواتها في إطار جهود مكافحة الإرهاب، لكن أيضاً "لأن القاهرة لا تريد أن ينظر إليها على أنها موافقة على الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة".
ويعتقد جاد أن مصر كانت مستعدة لحلول وسط في شأن محور فيلادلفيا، إذ إنه "في البداية تم طرح فكرة وجود قوات دولية ثم طُرحت فكرة انسحاب إسرائيلي تدريجي يسمح باحتفاظها بعدد رمزي من القوات مع وجود ضمانات أن تنسحب لاحقاً، لكن إصرار نتنياهو على عدم الانسحاب تماماً دفع مصر للتراجع والعودة إلى موقفها الأول متمسكة بضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من المحور".
ويقول جاد "أفهم أن ثمة موافقة مصرية مبدئية عرضت كحل وسط تنطوي على قبول محدود للقوات الإسرائيلية بشرط أن تنسحب لاحقاً علي مدى ستة أشهر"، مؤكداً "صعب مصر تقبل باستمرار الوجود الإسرائيلي الكثيف في فيلادلفيا إلا إذا أبرمت صفقة كبيرة.. أتصور أن نتنياهو إذا وافق على الانسحاب التدريجي ووقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين قد توافق مصر على حلول وسط في شأن حجم القوات والفترة الزمنية لأن الترتيبات النهائية لن تفسح أي مجال لوجود ’حماس‘ عسكرياً في القطاع".
وكانت صحيفة معاريف الإسرائيلية أفادت بأن محادثات الأحد الماضي ناقشت تنازلات في شأن "الانسحاب الإسرائيلي التدريجي [الجزئي] من ممر فيلادلفيا خلال المرحلة الأولى من الاتفاق" إلى جانب "وعد بعدم تنفيذ أية أعمال بناء على الممر أو محاولات لتغيير الوضع الحالي". وفي الوقت نفسه، تضمن التنازل بنداً ينص على بقاء "ممر بري" للسماح للجيش الإسرائيلي بالتحرك والوصول إلى المنطقة بسرعة إذا دعت الحاجة. وذكرت الصحيفة أن المفاوضين الإسرائيليين قالوا إنهم لا يملكون السلطة الكافية لقبول أو رفض المقترحات وأنهم في حاجة إلى مناقشتها مع نتنياهو.
وفيما يؤكد الدويري أن مصر حريصة وتبذل كل الجهد من أجل التوصل إلى الهدنة الثانية بعد مرور أكثر من تسعة أشهر على الهدنة الإنسانية الموقتة الأولى التي تمت خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، ولذلك فإنها "لا تمانع في مناقشة المقترحات كافة التي يمكن للأطراف طرحها في أية قضية"، فإنه يشدد على أن ذلك يستوجب "شرطاً واحداً وهو أن تؤدى في النهاية إلى تحقيق الأهداف المصرية المعروفة والمعلنة ومن بينها الانسحاب الإسرائيلي الكامل من محور فيلادلفيا"، ويضيف أن "أي حديث عن وجود إسرائيلي دائم في هذه المنطقة تحت أي غطاء فهو أمر مرفوض تماماً... وهو موقف مصري أصيل وثابت وتتواءم معنا حركة ’حماس‘ في هذا الموقف".