بعد أن بدأت إسرائيل عمليتها العسكرية البرية في غزة، في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2023، نشرت الطبيبة المصرية غادة صديق، مقطعاً مصوراً عبر حسابها على فيسبوك، يُظهر مُسيّرة إسرائيلية تلاحق شاباً قبل أن تصيبه.
في المقابل، نشر الكاتب الإسرائيلي تزيفي فيشمان عبر صفحته على فيسبوك محتوى بعنوان: "لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة". ونقل فيشمان عن الحاخام دوف ليئور -كبير الحاخامات في الخليل- قوله إن "الجيش الإسرائيلي لا يحتاج إلى تعريض جنوده للخطر من خلال تفتيش منزل تلو الآخر، للتأكد من عدم إصابة المدنيين، بل يجب عليه أن يحذو حذو أميركا في الحرب العالمية الثانية، عندما أبادت مدينتين يابانيتين بالكامل؛ من أجل إنهاء الحرب، وإنقاذ حياة الجنود الأميركيين".
لم يبقَ الفيديو المنشور على حساب صديق سوى ساعات معدودات؛ ثمّ حُذف بعدها، وتمّ تقييد الحساب لمدة 24 ساعة، بدعوى "مخالفة معايير" فيسبوك، في حين لم يُحذف المنشور الثاني لفيشمان، الذي يدعي بأنه "لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة".
أنشأ معد التحقيق -بالتعاون مع المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي (حملة)، المختص في الحقوق الرقمية- قاعدة بيانات قوامها 50 محتوى نشرها مواطنون إسرائيليون على حساباتهم، وشخصيات عامة إسرائيلية؛ على رأسها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وصفحات تابعة لمؤسسات إعلامية إسرائيلية، على منصتي ميتا؛ فيسبوك وإنستغرام. وحملت هذه المنشورات دعوات لاستخدام العنف ضد المدنيين، والدفع نحو التهجير القسري للفلسطينيين، ومطالبات بوقف إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.
واتفق خبراء قانونيون تحدثنا إليهم، على أن هذه المنشورات تمثل انتهاكاً لسياسة ميتا لمكافحة خطاب الكراهية، فضلاً عن دعوتها لارتكاب ممارسات محظورة، بموجب القوانين الدولية ذات الصلة.
يأتي هذا على النقيض مما أعلنته ميتا، بأنها تطبق سياسات "المحتوى العنيف والصادم" بصورة متساوية في كل أنحاء العالم؛ رداً على تقارير حقوقية وصحفية اتهمت الشركة الأميركية المنشأ بالانحياز إلى إسرائيل؛ لحذفها محتوى فلسطينياً سلمياً.
وفي ردها على نتائج التحقيق، قالت "ميتا" إنها قد ترتكب أخطاءً في ظل حرب متسارعة الوتيرة، نافية أن يكون هناك انحياز متعمد لطرف على حساب آخر.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فعبر مجموعات على "فيسبوك" انطلقت دعوات استيطانية، سرعان ما انتقلت من الفضاء الإلكتروني إلى أرض الواقع، بتنظيم فاعليات على تخوم غزة، تطالب بإحياء الاستيطان في القطاع.
ازدواجية المعايير اعتادت الزميلة الصحفية المغربية، سعيدة الملاح، نشر مستجدات الحرب في غزة عبر حساباتها على منصات التواصل الاجتماعي، بصفتها صحفية معنية بتغطية الحرب. لكن وبعد نشرها صوراً عمّا عرف إعلامياً بـ "محرقة الخيام" -وهي غارة نفذها سلاح الجو الإسرائيلي في 26 أيار/مايو 2024 في رفح، أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 45 فلسطينياً أغلبهم من النساء والأطفال- توقف حسابها على منصة "إنستغرام"، ولم تستطع استرجاعه إلا بصعوبة. ترجع سعيدة هذا "الخلل التقني" في حسابها إلى نشرها محتوى يوثّق الانتهاكات الحقوقية أثناء الحرب في غزة.
منشور الملاح واحد من 20 منشوراً، وثّق معد التحقيق حذفها و/أو تقييد إحدى منصتي ميتا لها؛ وترصد غالبيتها انتهاكات حقوقية، أو تنقل أخبار الحرب، أو تشارك مقالات تحليلية بشأن فلسطين.
في المقابل، جمعنا 50 منشوراً نشرتها حسابات وصفحات إسرائيلية على كل من منصتي فيسبوك وإنستغرام، بعد هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. تضمنت هذه المنشورات خطاباً عنيفاً موجهاً ضد الفلسطينيين خاصة، والعرب عامة، ودعوات لإبادة أهالي غزة من دون تمييز بين مدني وعسكري، ووقف إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع. ولم تقتصر هذه الدعوات على غزة؛ فطالب بعض المستخدمين بتحويل العاصمة اللبنانية بيروت إلى خان يونس أخرى؛ رداً على هجمات حزب الله شمالي إسرائيل. وروّجت بعض المنشورات لمعلومات وصور مضللة.
جمعنا هذه المنشورات بالتعاون مع مركز "حملة". وباستشارة خبراء قانونيين مستقلين، حلّلنا عينة تتضمن خمسة منشورات -ظلت متاحة على فيسبوك، المملوك لشركة ميتا، حتى وقت مواجهة الشركة بخلاصات التحقيق- لقياس مدى التزام الشركة بسياستها المُعلنة بشأن خطاب الكراهية، ومدى توافقها مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
وحذفت "ميتا" ثمانية منشورات من إجمالي العينة (50 منشوراً) "لانتهاكها معايير مجتمع ميتا"، بعد أن أرسلنا إليها المنشورات، في إطار حق الرد.
عند إطلاع الخبير القانوني المصري ياسر سعد، على قاعدة بيانات المحتوى المشتبه في احتوائه على خطاب كراهية، قال إن جُله يخالف المادة رقم 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تحظر خطاب الكراهية.
واتفقت معه الباحثة القانونية المختصة بالإبادة الجماعية في جامعة أنتويرب البلجيكية، مها عبد الله، في أن هذا المحتوى يمثل تحريضاً على الإبادة والتطهير العرقي للفلسطينيين، مضيفة أنه يجب على إدارة ميتا القيام بمسؤوليتها القانونية والأخلاقية باتخاذ إجراءات حاسمة إزاء هذا المحتوى.
وكان مركز حملة قد رصد أكثر من ثمانية آلاف حالة انتهاك رقمي، للمحتوى الداعم لفلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي. وتشكل إزالة المحتوى وتقييده نحو 40 في المئة من إجمالي الانتهاكات المُسجلة.
في المقابل، رصد المركز تصاعد عدد ما وصفه بالمحتوى "العنيف"، عقب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ليصل إلى ذروته في التاسع من الشهر نفسه، بتسجيل أكثر من 120 ألف منشور موجه ضد الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي.
في هذا الصدد، يقول رئيس قسم المناصرة في مركز حملة، جلال بو خاطر، إن السماح بنشر محتوى يُروج لخطاب الكراهية والتحريض، يشكل تهديداً كبيراً على حياة الفلسطينيين وسلامتهم. في الوقت نفسه، يؤدي قمع المحتوى الفلسطيني إلى إسكات الأصوات التي تسعى إلى توثيق انتهاكات حقوق الإنسان خلال الحرب في غزة، وفق بو خاطر. يشير تحليل تواريخ المنشورات، موضوع تحقيقنا، إلى أن غالبيتها نُشرت في الأشهر الثلاثة التي أعقبت اندلاع الحرب، تبع ذلك انخفاض في كثافة النشر. لكن ظلت المنشورات التي تحمل خطاباً عنيفاً تظهر على فترات زمنية متفاوتة، حتى حزيران/يونيو 2024.