اخبار دولية

واشنطن بعد باريس.. النفوذ الغربي بأفريقيا في مهب الانقلابات و"الفيلق الروسي"

المصدر
أحمد حلمي

في وقت تزعزع فيه النفوذ الفرنسي في أفريقيا بفعل متوالية الانقلابات العسكرية في دول الساحل والصحراء، حاولت الولايات المتحدة التعامل بحذر مع الواقع الجديد حفاظا على مصالحها بالمنطقة، لكن الوقائع أثبتت أن دائرة الرفض تشمل الوجود الأميركي أيضا. وفي المقابل عادت روسيا بشكل ما لتملأ الفراغ الأمني والعسكري مع حضور اقتصادي صيني فاعل ومكثف في القارة. وبذلك باتت أفريقيا في صلب مرحلة جديدة من الصراع العالمي على النفوذ.

وفي حين تتردد الأنباء عن قرار أميركي بسحب قواتها من النيجر، تشير التقارير إلى "تقطع السبل" بتلك القوات، حيث لا يمكنها الحصول على البريد والأدوية أو أي دعم آخر من البنتاغون، بينما "تقمع إدارة بايدن بنشاط التقارير الاستخباراتية حول تدهور العلاقات العسكرية الأميركية مع نيامي"، وفق ما أورده موقع "إنترسبت" وصحيفة "واشنطن بوست" نقلا عن تقارير وشهادات عسكريين يتمركزون في النيجر.

وقال النائب الجمهوري مات غايتس لموقع إنترسبت: "على إدارة بايدن الاعتراف بأن خطتها في النيجر قد فشلت وعليها إعادة هذه القوات إلى الوطن على الفور.. إذا لم يكن هناك حل بين النيجر والولايات المتحدة قبل نهاية الشهر، فإن قواتنا ستكون في خطر داهم".

في 16 مارس/آذار 2024، قرر المجلس العسكري الحاكم إنهاء "الاتفاق العسكري" الموقع بين البلدين عام 2012 بشكل "فوري"، ووجه العقيد الناطق باسم المجلس أمادو عبد الرحمن انتقادات لاذعة لواشنطن و"لوجودها العسكري غير الشرعي" في البلاد والذي كان نتيجة لاتفاق "تم فرضه" وفق تقديره.

كما اتهم الناطقُ باسم المجلس "مولي في" -وهي نائبة كاتبة الدولة للشؤون الأفريقية في الإدارة الأميركية، والتي ترأست البعثة الأميركية إلى النيجر- بـ"التعالي"، ورفض رئيس المجلس عمر عبد الرحمن تياني مقابلتها، في حين انتقد أمادو عبد الرحمن "إرادة أميركا لتجريد الشعب النيجري السيادي من حقه لاختيار شركائه".

واشنطن على خطى باريس

ورغم أن واشنطن تجنبت الإدانة الكاملة للانقلاب العسكري في النيجر (26 يوليو/تموز 2023 ) وكذلك في بوركينا فاسو (23 سبتمبر/أيلول 2022) ومالي ( 24 مايو/أيار2021 ) ومنحت في السنوات الأخيرة مئات ملايين الدولارات للنيجر ضمن برامج المساعدة الإنمائية لتعزيز الشراكة العسكرية معه، لم تحظ بمعاملة خاصة من العسكريين الذين رفضوا سابقا وجود القوات الفرنسية في بلادهم.

وتحتفظ الولايات المتحدة بقاعدة عسكرية متقدمة في منطقة أغاديز منذ عام 2018 (القاعدة الجوية 201)، وهي تعد من بين أبرز القواعد المتخصصة في الاستخبارات والمراقبة بمنطقة الساحل (إضافة إلى قاعدة لومونييه بجيبوتي في القرن الأفريقي)، وتضم حوالي 1100 عسكري ومئات الطائرات المسيرة، وكلفت نحو 100 مليون دولار.

ووفقا لتقرير النائب مات غايتس الذي نقلته "إنترسبت" وبني على أساس مقابلات مع عسكريين في النيجر فقد "تقطعت بهم السبل وظيفيا في الدولة التي تزداد عدائية لهم"، كما أنهم ممنوعون من القيام بمهام أو العودة إلى ديارهم في نهاية انتشارهم المقرر، ولا يُسمح لأي رحلات جوية من النيجر بالدخول أو الخروج من البلاد لدعم جهود أو متطلبات وزارة الدفاع"، كما أن "البريد والأغذية والمعدات والإمدادات الطبية ممنوعة من الوصول إلى القاعدة الجوية 201"، كما تم رفض بعض التصاريح الدبلوماسية للوصول لمدينة أغاديز.

ورغم حالة الجفاء، تحاول الولايات المتحدة مواصلة المشاورات مع النيجر لتقليل خسائرها في المنطقة وتجنب مصير فرنسا التي طُرد سفيرها من نيامي في سبتمبر/أيلول 2023 وأغلقت سفارتها وغادر جنودها البلاد، وذلك بعيد طرد كامل قواتها من مالي ثم من بوركينا فاسو، وتوجه معظمهما إلى آخر معاقلها في تشاد.

وإضافة إلى تجميد المساعدات المالية، التي تبلغ 260 مليون دولار بعد الإطاحة بنظام الرئيس محمد بازوم في يوليو/تموز 2023. كانت هناك تحفظات كبيرة من النيجر ودول الساحل (مالي وبوركينا فاسو) حول قرار فرنسا والولايات المتحدة وقف التنسيق الأمني مع السلطات الجديدة المتعلق بمكافحة الجماعات المسلحة، واعتبروا أن البلدين لا يكافحان "الإرهاب" إلا إذا كان في صالح أنظمة تابعة لهما.

ومع المتغيرات المتسارعة، تخشى باريس من موقف مماثل تتخذه تشاد بعيد زيارة رئيسها محمد إدريس ديبي إلى موسكو في يناير/كانون الأول 2024 لمقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما تشعر بالتوتر من مواقف غير منتظرة قد تأتي من السنغال، إحدى أهم مناطق نفوذها في أفريقيا بعد تصريحات رئيسها المنتخب باسيرو ديوماي فاي حول إعادة النظر في إستراتيجيات التعاون وتنويع الشراكات.

لعل ما أحرج فرنسا أكثر من خروجها من مستعمراتها السابقة، ونهاية عصر "أفريقيا الفرنسية"، كما عبر عن ذلك رئيسها إيمانويل ماكرون، وكذلك الولايات المتحدة التي ارتبكت في التعامل مع الموقف النيجري؛ هو تزايد النفوذ الروسي الذي بدا أنه يعوض الرحيل الفرنسي وربما الأميركي، في وقت لا تمر فيه روسيا بأفضل أوقاتها مع وطأة الحرب في أوكرانيا.

فمقابل الموقف الصارم للمجلس العسكري النيجري -الذي تدرب معظم أركانه في فرنسا والولايات المتحدة- من الوجود الفرنسي ثم الأميركي التقليدي و"تقطع السبل بالقوات الأميركية" في أغاديز، وصلت إلى العاصمة نيامي دفعة من "فيلق أفريقيا" في 11 أبريل/نيسان 2024 مع معدات عسكرية متنوعة لتدريب عناصر الجيش النيجري.

وأعلنت موسكو عن تشكيل "فيلق أفريقيا" في يناير/كانون الأول 2023 لتتبع وزارة الدفاع الروسية وتتكون في معظمها من عناصر قوات فاغنر التي كانت تحت إمرة يفغيني بريغوجين الذي لقي حتفه في حادث طائرة ملتبس في 23 أغسطس/آب 2023. وبات حضور هذه المجموعة العسكرية واضحا في منطقة الساحل الأفريقي.

وتوجد مجموعات من قوات فاغنر (فيلق أفريقيا حاليا) في جمهورية أفريقيا الوسطى منذ يوليو/تموز 2023 "لتدريب قواتها، وتعزيز الأمن في أراضيها"، بمقتضى اتفاق دفاع تم توقيعه مع موسكو، بعد أن انسحبت القوات الفرنسية أواخر عام 2022، كما تتمركز قوّة قوامها 100 عنصر في بوركينا فاسو، وتوجد قوات مماثلة في جمهورية مالي.

تشير التقارير من موسكو إلى أن وزارة الدفاع الروسية تخطط لنشر نحو 50 ألفا من عناصر "الفيلق" في دول أخرى في أفريقيا، وتعزيز حضورها في البلدان التي تنتشر فيها، وتكثيف التعاون العسكري والاقتصادي مع دول القارة وخاصة دول الساحل والصحراء.

وكان لافتا في موجة الانقلابات الجديدة التي شهدتها القارة منذ عام 2020 الود تجاه الروس مقابل النزعة المناهضة للنفوذ الفرنسي والغربي بشكل عام. ويرى محللون أن هذه الانقلابات تحمل زخم الستينيات من القرن الماضي ولمحة من عصر حركات التحرّر الوطني الأفريقي آنذاك، في حين يعتقد آخرون أنها جزء من متلازمة الانقلابات في أفريقيا.

صحوة أم فوضى انقلابات؟ كانت القارة الأفريقية تقليديا منطقة نفوذ غربية بامتياز، بفعل الماضي الاستعماري خصوصا الفرنسي، وسيطرة النخب المدنية والعسكرية الليبرالية الموالية. وفي ستينيات القرن الماضي، وبعيد استقلال 17 دولة أفريقية، أفرزت حركات التحرر قادة كبار -رغم كونهم شباب أيضا- حاولوا خط طريق لاستقلال حقيقي لأفريقيا، والخروج عن الهيمنة الغربية مثل موديبو كايتا في مالي وكوامي نكروما في غانا وأحمد سيكوتوري في غينيا وباتريس لوممبا (الكونغو) وجوليوس نيريري (تنزانيا)، وجومو كينياتا (كينيا) وغيرهم.

جاء هؤلاء القادة بفعل ما عرف بكونه "انقلابات غير تقليدية" أو بمقتضى الشرعية الثورية في عصر كان فيه العالم يعيش عصر الأيديولوجيا وصراع القطبين، حيث انفتحت فرص جديدة للتعاون السوفياتي-الأفريقي آنذاك، أو الاتجاه في مسار عدم الانحياز.

وكان من آثار هذه الموجة تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 (أصبحت الاتحاد الأفريقي عام 2002) لكن هذه الصحوة الأفريقية أُحبطت بفعل انقلابات مضادة أو عودة النخب التابعة للغرب للحكم، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، عادت معظم الدول الأفريقية- عدا استثناءات قليلة- تحت النفوذ الغربي.

وتشير إحصاءات إلى أن 214 محاولة انقلابية جرت في أفريقيا منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى عام 2023، نجح منها 106 انقلابات، كما أن نحو 25 انقلابا نظم ضد رؤساء عرفوا بمواقفهم المناهضة للاستعمار حيث جرى اغتيال بعضهم.

ويعتقد محللون أن موجة الانقلابات التي جرت في أفريقيا منذ عام 2021 (في مالي) تشبه تلك التي حدثت بعيد الاستقلال في الستينيات من القرن الماضي، لا سيما في اتجاهها نحو الاستقلال عن النفوذ الاقتصادي والسياسي الغربي واسترجاع سلطة القرار والتحكم في ثرواتها، وخصوصا في البحث عن تنويع الشراكات، كما حظيت قراراتها بتأييد شعبي لم يكن خافيا.

ففي بوركينا فاسو، يعتبر الرئيس الحالي إبراهيم تراوري (35 عاما) قائد انقلاب 23 سبتمبر/أيلول 2022 نفسه امتدادا للزعيم توماس سنكارا الذي أسس "بلاد النزهاء" (بوركينا فاسو) واجتهد في تحرير بلاده من التبعية للغرب وقاد خلال 4 سنوات من الحكم تحولا مهما على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي قبل اغتياله من قبل زميله بلاز كومباوري في أكتوبر/تشرين الأول 1987 بتنسيق مع المخابرات الفرنسية، كما كشف لاحقا.

وعبر تراوري -الذي ينحدر من عائلة مسلمة من قبائل ديولا- عن توجهاته تلك في القمة الروسية الأفريقية التي انعقدت في سان بطرسبورغ في 28 يوليو/تموز 2023 وفي لقاءات واجتماعات في بلده حيث يقول:

المعركة التي نخوضها ليست فقط من أجل بوركينا فاسو، لكنها معركة من أجل أفريقيا بأكملها. لقد حان الوقت لكي نستيقظ ولم يعد علينا عبور المحيط.

ولم يكن العديد من القادة الأفارقة -الذي يحسبون على الغرب- بعيدين عن أفكار تراوري، حيث قال القائد العسكري لغينيا (المستعمرة الفرنسية السابقة) مامادو دومبويا، الذي قاد انقلاب الخامس من سبتمبر/أيلول 2021 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2023: "لقد حان الوقت للكف عن إلقاء المحاضرات علينا ومعاملتنا مثل الأطفال".

كما انتقد الرئيس الغاني نانا أكوفو آدو بشكل حاد سياسة الغرب تجاه القارة الأفريقية -وهو المقرب منهم- في كلمته، حين قال:

"الكثير من ثروات الغرب تم بناؤه من دماء ودموع ورعب تجارة العبيد وقرون من الاستغلال والاستعمار".

يعكس ذلك التحول الفارق في مقاربة الدول الأفريقية لعلاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية حتّمتها عقود من الفشل الاقتصادي والتنموي والانخرام الأمني وانتشار الفقر والفساد رغم الثروات الضخمة التي تمتلكها في ظل أحادية العلاقة مع الدول الغربية.

وانطلاقا من هذه المقاربة الجديدة، يمكن فهم انحسار النفوذ الغربي وتزايد نفوذ دول أخرى مثل روسيا والصين وتركيا، والتي لم تكن دولا استعمارية، فروسيا تعاود الدخول من بوابة علاقاتها التاريخية مع دول القارة، وتنفذ الصين من واقع قوتها الاقتصادية والتكنولوجية وتتلاقى هذه الدول في مبدأ التعامل بندية واحترام مع الدول الأفريقية وشعوبها.

ورغم ما يبدو أنه استسلام فرنسي أميركي للأمر الواقع في كل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو، يصعب تخلي البلدان عن مواصلة صراع النفوذ في المنطقة الإستراتيجية الغنية بالثروات وترك الساحة كليا لروسيا والصين، فالدولتان تملكان أوراقا رابحة وشراكات قوية في القارة ونفوذ اقتصادي وأمني متراكم يصعب تجاوزه، لكن تأثيرات الدومينو في قارة تتغير تبدو كذلك قوية.