مع اقتراب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من دخول شهرها السادس، برزت جملة واسعة من المتغيرات على الساحة الدولية بشأن شكل التعاطي مع هذا العدوان الوحشي، والذي أدى حتى الآن لسقوط أكثر من 32 ألف شهيد معظمهم من النساء والأطفال.
وتواصل إسرائيل تصميمها على استكمال حربها على قطاع غزة، وتلوح بعمل عسكري واسع في مدينة رفح الجنوبية التي تحتوي على أكثر من 1.25 مليون نازح من شمال القطاع.
وفي المقابل، يتنامى الرفض الدولي إزاء الشروع في العملية، مما يضع تحديات كبيرة أمام صانع القرار في إسرائيل، ذلك أن ما كان مسموحا به سابقا لم يعد كذلك الآن، وما كان بلا أثمان دبلوماسية أو سياسية عند بداية الحرب لم يعد بالإمكان الاستمرار فيه.
وبينما لا تزال مسألة اجتياح رفح تخضع لهوامش المفاوضات، فإنه لا يمكن إرجاع التردد الإسرائيلي في المضي في العملية هناك إلى الأسباب الفنية واللوجيستية فحسب، بدون الأخذ في عين الاعتبار تصاعد التحذيرات الدولية بشأن العواقب المحتملة لاستمرار الحرب أو اجتياح مدينة رفح، نظرا لما يمكن أن يسببه من تداعيات كارثية على المدنيين.
لقد كان قرار مجلس الأمن رقم 2728 الصادر في 25 مارس/آذار 2024، العلامة الأبرز على الانزياح الدولي تجاه تكثيف الضغوط على إسرائيل، بسبب الحرب على غزة.
تجلى ذلك في امتناع واشنطن عن التصويت، مما سمح بتمرير القرار الذي يطالب "بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان، تحترمه جميع الأطراف مما يؤدي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار"، وكذلك "الحاجة الملحة لتوسيع تدفق المساعدات الإنسانية إلى المدنيين وتعزيز حمايتهم في قطاع غزة بأكمله"، مع الطلب من الأطراف بالامتثال لالتزاماتهم بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بالمحتجزين جميعهم.
ورغم أن قرار مجلس الأمن لم يتضمن أي صياغة تحمل صفة الإلزام، فإنه من الواضح أن الضغط على إسرائيل بات أكثر استحكاما، بعد انخراط حلفائها في محاولات الدفع نحو التوصل لوقف لإطلاق النار، مما جعلها تواجه خطر اهتزاز علاقاتها الدولية.
المسؤولية الدولية تجاه الحرب في غزة ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، سعى المجتمع الدولي إلى ترسيخ جملة من القواعد التي لا تهدف إلى ضمان عدم تكرار مأساة الحرب فقط، وإنما إلى ترسيخ نظام قائم على احترام القواعد الدولية التي تضمن الاستقرار والسلم الدوليين، ووقف الانتهاكات وكذلك ضمان المساءلة عن الأفعال غير المشروعة.
ورغم الأهمية التي يحظى بها قرار مجلس الأمن الأخير، فإنه لم يكن وحده ما يدعو المجتمع الدولي إلى تكثيف ضغوطه على دولة الاحتلال الإسرائيلي لوقف عدوانها على غزة، ومن قبل ذلك إنهاء انتهاكاته الواسعة في الأراضي الفلسطينية بما فيها استمرار الاحتلال.
إن مسؤولية الدول في وضع حد للانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية وخاصة قطاع غزة تنبع بشكل واضح من جملة من الالتزامات التي تتضمن تعهدا أو واجبا على الدول باحترام تطبيقها ومنع انتهاك أحكامها، والتي من بينها:
1- قرارات مجلس الأمن أثار قرار مجلس الأمن الأخير بشأن الدعوة لوقف إطلاق النار في غزة خلال شهر رمضان، حالة من النقاش بشأن مدى إلزامية قرارات المجلس، خاصة بعد تصريحات مسؤولين أميركيين والتي أشارت إلى أن القرار المتعلق بغزة غير ملزم وإن كان من الواجب احترامه.
بموجب المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة، فإن لمجلس الأمن سلطة إصدار قرارات تكون ملزمة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، إلا أن العقود الماضية شهدت جدلا بشأن الصيغة التي تجعل القرار ملزما وليس توصية، وهو الجدل الذي انسحب على عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بما فيها القرار الشهير 242 بشأن الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967.
وبينما كان هناك إجماع على أن نصوص قرارات المجلس التي يتم اتخاذها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة تكون ملزمة، فقد درج خلال العقدين الماضيين استخدام المجلس عبارات أكثر وضوحا في التعبير عن إلزامية القرار، ومنها الإشارة إلى وجود تهديد للسلم الدولي أو إخلال به، أو وقوع عمل من أعمال العدوان، بموجب المادة 39 من الميثاق، والتي تدخل ضمن أحكام الفصل السابع، إضافة إلى تضمن فقرات القرار عبارة "يقرر"، ومن ثم فإن هناك فرقا بين عبارة "يحث/يطالب مجلس الأمن"، و "يقرر مجلس الأمن".
من الأمثلة على ذلك، قرار مجلس الأمن 478 الصادر عام 1980، ردا على قيام إسرائيل بسن "قانون القدس الموحدة"، فقد قرر المجلس بشكل واضح بطلان جميع التدابير والإجراءات التي تتخذها إسرائيل وتهدف إلى تغيير طابع مدينة القدس، كما دعا الدول الأعضاء إلى عدم قبول القانون وسحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة، حيث يعتبر هذا القرار من أهم القرارات الصادرة عن مجلس الأمن فيما يتعلق بوضع مدينة القدس المحتلة.
المثال الآخر، يتعلق بالحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، حينما أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1701، والذي دعا إلى وقف الحرب ونشر قوات اليونيفيل، ومن ثم سحب قوات حزب الله في المنطقة الواقعة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني.
وفي حين تضمن القرار عدة فقرات بدأتها بكلمة "يقرر"، فقد أشارت الديباجة أيضا إلى أن الوضع في لبنان يمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، بما يدخل في أحكام المادة 39 ضمن الفصل السابع في الميثاق، حتى وإن لم يتم الإشارة لهذا الفصل صراحة بعد رفض الحكومة اللبنانية ذلك. وفي حين التزمت الأطراف كافة بالقرار، فإنه لا يزال يمثل مرجعية في المطالبات والدعوات لوقف التصعيد الحالي بين حزب الله وإسرائيل.
2- اتفاقية منع الإبادة الجماعية كان شهر يناير/كانون الثاني من العام الجاري فاصلا في إبراز تنامي عزلة إسرائيل الدولية وترسيخ القناعة بأن انتهاكاتها ضد المدنيين الفلسطينيين بلغت حدا غير مسبوق، ولا يمكن السكوت عنه.
وقد باتت إسرائيل في قفص الاتهام أمام محكمة العدل الدولية للمرة الأولى منذ تأسيسها تحت طائلة انتهاك التزاماتها، بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وبموجب المادة الأولى من الاتفاقية، فإنه يقع على عاتق الدول الموقعة مسؤولية واضحة في منع جريمة الإبادة الجماعية ووقفها.
واستندت جنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل على المادة التاسعة من الاتفاقية، والتي تتيح لمحكمة العدل الدولية النظر في أي نزاع ينشأ بين الأطراف في الاتفاقية بشأن تفسير المعاهدة أو نطاق تطبيقها، بما في ذلك المسؤولية عن جريمة إبادة جماعية.
أما المادة الثامنة من ذات المعاهدة، فتمنح الأطراف إمكانية استدعاء الأجهزة المختصة في الأمم المتحدة لاتخاذ ما يلزم من تدابير لمنع ووقف أفعال الإبادة الجماعية، وفقا لنصوص الاتفاقية.
وأشارت محكمة العدل الدولية إلى جملة من التوضيحات بشأن دور الدول الأطراف في الاتفاقية في منع الجريمة، وفي قرارها في قضية البوسنة ضد صربيا. فقد رأت المحكمة أنه حتى مع استدعاء الأجهزة المختصة في الأمم المتحدة بموجب المادة الثامنة، فإن ذلك لا يعفي الدول الأطراف من اتخاذ كل ما بوسعها من إجراءات لمنع وقوع الإبادة الجماعية، بما يتناسب مع ميثاق الأمم المتحدة وأي قرارات تصدر عن الأجهزة المختصة في الهيئة الأممية.
وفي هذا الصدد، أشارت المحكمة إلى مبدأ "العناية الواجبة"، الذي يمكن من خلاله الاستنتاج بالتزام الدول الأطراف بمنع جريمة الإبادة الجماعية.
وقد اعتبرت المحكمة أن الالتزام وما يقابله من واجب التصرف، "ينشآن في اللحظة التي تعلم فيها الدولة، أو كان ينبغي لها عادة أن تعلم، بوجود خطر جدي بارتكاب جريمة إبادة جماعية".
وفي الدعوى التي رفعتها أوكرانيا ضد روسيا عام 2022 بشأن انتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية، أشارت المحكمة إلى أن الاتفاقية لم تحدد التدابير التي يجوز للأطراف المتعاقدة اتخاذها للوفاء بالتزاماتها بمنع الجريمة، بيد أنه يبقى من واجب الأطراف تنفيذ هذا الالتزام بحسن نية، مع مراعاة أحكام الاتفاقية خاصة المتعلقة باللجوء لمحكمة العدل الدولية أو الأجهزة المختصة في الأمم المتحدة.
3- اتفاقيات جنيف لعام 1949 أشارت عشرات القرارات الدولية الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة المختلفة إلى انطباق اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 بما فيها شرقي القدس.
وقد نصت المادة الأولى المشتركة في الاتفاقيات الأربع، على أن "تتعهد الأطراف السامية بأن تحترم هذه الاتفاقية، وتكفل احترامها في جميع الأحوال".
وفي تعليقها على المادة المذكورة، أشارت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى "البعد الخارجي" المتعلق بضمان احترام الاتفاقيات، والذي لا يفرض على أطراف النزاع الالتزام بالاتفاقيات فحسب، بل يوجب على الدول الثالثة (غير الأطراف) سواء كانت محايدة أو حليفة أو معادية، أن تفعل كل ما بوسعها، لكن بصورة معقولة لضمان احترام الاتفاقيات من قِبل أطراف النزاع.
وهي بذلك لا تبرر لتلك الأطراف التهديد باستخدام القوة أو حتى استخدامها بما يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة، بل تفرض عليها التزامات ومن بينها الامتناع عن نقل الأسلحة إذا كان يعتقد أنها ستستخدم في انتهاك الاتفاقية، أو عدم الاعتراف بالوضع الناشئ عن انتهاك الاتفاقيات، كما يجري تفسير المادة الأولى على أنها تمنح الدول الأطراف في الاتفاقية استخدام كافة التدابير الملائمة في حدود المعقول التي تضمن احترام أطراف النزاع للاتفاقيات.
التدابير المضادة ووقف الانتهاكات الإسرائيلية خلال العقود الماضية، تعارف المجتمع الدولي على ما يعرف بـ"التدابير المضادة"، والتي تعني في مجملها الإجراءات التي تتخذها الدول في مواجهة سلوك غير مشروع لدول أخرى، وتشمل تلك التدابير على سبيل المثال تعليق العلاقات الدبلوماسية أو وقف مبيعات الأسلحة أو قطع العلاقات التجارية وغيرها.
خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وما تخلله من انتهاكات جسيمة بحق المدنيين هناك، كان التنديد الدولي بإسرائيل قد وصل إلى مراحل قصوى، مما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة في عدة دورات متتالية إلى إصدار قرارات منها على سبيل المثال 123/37 و180/38، وقد حملت تلك القرارات إدانة غير مسبوقة لإسرائيل، ودعوات صريحة لاتخاذ تدابير ضدها، بسبب رفضها الالتزام بالمقررات الدولية.
وشملت القرارات دعوة الدول أعضاء الأمم المتحدة إلى قطع العلاقات الدبلوماسية والثقافية والتجارية مع إسرائيل، إضافة إلى قطع المساعدة الاقتصادية والمالية، كما طالبت تلك القرارات بوقف التعاون العسكري مع إسرائيل.
عدا عن ذلك، فقد أعلنت تلك القرارات أن إسرائيل دولة غير محبة للسلام، ولا تلتزم بأحكام ميثاق الأمم المتحدة (وهي شروط قبول الدولة في عضوية الأمم المتحدة).
وفي الأسابيع الأولى للعدوان على قطاع غزة، أقدمت عدة دول على سحب سفرائها من تل أبيب أو قطع العلاقات الدبلوماسية معها بالكامل.
ولاحقا، أخذ السلوك الدولي يتصاعد ضد إسرائيل حتى من قبل حلفائها، خاصة بعد رفع جنوب أفريقيا دعواها بشأن انتهاك إسرائيل اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، حيث أعلنت عدة دول من بينها كندا وإسبانيا وبلجيكا وغيرها، حظر توريد الأسلحة إلى إسرائيل على خلفية الحرب في غزة.
الضغط الدولي لوقف الحرب بعد هجمات السابع من أكتوبر، حظيت إسرائيل بشرعية واسعة على المستوى الدولي مكنتها من القيام بأكبر عملية إبادة جماعية للفلسطينيين منذ النكبة.
ودأبت الدول الحليفة لإسرائيل على دعم العدوان العسكري على قطاع غزة في البدايات، والتأكيد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، لكن الارتفاع غير المسبوق في أعداد الضحايا وفي غضون فترة زمنية قياسية أدى إلى تصاعد الأصوات المنددة بالحرب حول العالم، خاصة في الغرب.
وفي حين تبدي إسرائيل رفضا لمطالب وقف إطلاق النار في غزة، فإن قرار مجلس الأمن الأخير قد يؤدي إلى تصاعد الحراك الدولي الذي يستهدف الضغط على إسرائيل من خلال "التدابير المضادة" التي قد تنال من العلاقات الدبلوماسية والعسكرية بين عواصم العالم وتل أبيب، وبالتالي التأثير على مجرى الحرب وحدتها.