أول جملة (حتمية) في أي كتابة عن الموقف يمنياً، من فلسطين، على ضوء حرب غزة هي الجملة التالية: كل اليمنيين بلا استثناء مع غزة وفلسطين، بل ويمتد الجزم إلى القول ومع حماس كفصيل يتصدر المقاومة.
لكن التفصيل هنا عن انعكاس الحرب الداخلية والتموضعات التي آلت اليها الأطراف والأحزاب اليمنية -بعد ٩ سنوات من الحرب بينها وبين الحوثيين- على طريقة التعبير عن الموقف من تطورات حرب غزة وعدوان الاحتلال الوحشي، والتعقيد المُربك -خاصة لغير اليمنيين- الذي فرضه دخول الحوثي على خط المعركة، هو ما أثار الكثير من الجدل شعبيا، وصعوبة في تفهم غير اليمنيين من العرب لنقد اليمنيين للحوثيين حتى مع قيامهم بعمليات ضد إسرائيل!.
بدافع من التجربة والمعرفة الدقيقة بالحوثيين والخشية من ترسيخ نفوذه مستقبلا، تأتي مواقف كثير من اليمنيين غير متحمسة لما يقوم به الحوثي وفي أحسن الأحوال تضعه في سياق المجرد، بعيداً عن ما يسبغه بعض المتابعين العرب من مديح، أو ما تفرضه الضرورة والموقف من مباركة تصدر عن الفصائل الفلسطينية خاصة في ظل وحشية الاحتلال وحالة الخذلان والعجز التي تبدو العنوان الأبرز للموقف العربي الرسمي، مما يجعل من أي جهد عملا بطوليا، ولا يهم الخلفيات والدوافع، التي يحسب اليمنيون حسابها وكلفتها عليهم.
موقف اليمن الرسمي كان واضحاً منذ ٧ أكتوبر في تأييد حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه ودعم تطلّعه لاستعادة دولته وحقوقه، وأطلقت الحكومة حملة للتبرعات، وانطلقت مظاهرات شعبية في العاصمة المؤقتة عدن ومارب وتعز وغيرها.
وعندما راجت خلال الأيام الماضية، تسريبات حول احتمالية مشاركة الحكومة الشرعية في تحالف دولي لتأمين الملاحة في البحر الأحمر رداً على هجمات الحوثيين ضد سفن إسرائيلية، أصدرت الحكومة نفياً لتلك التسريبات، وقالت إنها لن تشارك في أي تحالف من هذا النوع وجددت تأكيدها على "موقف الجمهورية اليمنية المبدئي والثابت إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقه في الدفاع عن النفس وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة".
لكن الحوثي كان في وضع مختلف عن بقية الأطراف اليمنية، فهو كمليشيا غير معترف بها، يملك الهامش ومتخفف من الكلفة، كما أنه يملك الإمكانات العسكرية التي زودته إيران بها خلال عقدين، وأعدّته ليوم كهذا لتستخدمه في صراعاتها الإقليمية، سابقا ضد السعودية والآن لحفظ ماء وجهها في حرب غزة ولحماية سرديتها بشأن فلسطين كرافعة وغطاء للتوسع الإيراني في الدول العربية، وبأقل التكاليف قياساً مع ما يمكن أن تدفعه طهران إن هي تدخلت عبر حزب الله أو سوريا.
كما أن لدى الحوثي الحافز لفعل مثل هذا استثمارا للعاطفة الجياشة شعبيا تجاه فلسطين، وليكسب من القضية العادلة ما يمكنه من غسيل السمعة والجرائم طيلة سنوات، وأيضا هرباً من تصاعد الاحتجاجات ضده في مناطق سيطرته والتي هددت منظومة حكمه، فجاءت حرب غزة لتوفر له مخرجاً ولا بد أن يذهب بعيداً.
ويبدو وضع القوى المناوئة للحوثي معقداً أكثر، فموقفها من الحوثي قد يؤدي إلى إساءة فهم موقفها من المقاومة الفلسطينية وهو ما يهدف اليه الحوثي ويعزّزه، وخاصة حزب الإصلاح، كونه الأكثر حضوراً، وظلّ لعقود يتبنى بلغة واضحة القضية الفلسطينية، ويرتبط بعلاقة وثيقة بالفصائل الفلسطينية الرئيسية على أكثر من مستوى، لكن بعد انقلاب الحوثيين وتدخل التحالف و٩ سنوات من الحرب يتموضع الإصلاح ضمن مجلس القيادة الرئاسي الذي يضم كيانات أنشأتها الإمارات منذ ما بعد ٢٠١٩، وهو ضمن الموقف الرسمي المناصر لغزة وينشط وفق مساحاته المعروفة شعبيا وبالتبرعات وضمان ثبات الموقف الرسمي.
وليس ببعيد موقف التنظيم الناصري القوي، سواء على مستوى القيادات التاريخية للحزب التي أكدت في أكثر من صعيد على حق الفلسطينيين في مقاومة المحتل، أو على مستوى قيادة الحزب الحالية التي أصدرت بياناً داعماً لقضية العرب المركزية، وكذلك الحزب الاشتراكي الذي له أيضا موقف قوي وأصدر بياناً حيا فيه المقاومة ودعا الشعوب العربية إلى المسارعة في نجدة إخوانهم الفلسطينيين، "وتجاوز سلبيات الأنظمة العربية واستكانتها"، إضافة إلى موقف الحزبين إلى جوار الإصلاح وأحزاب أخرى في إطار التحالف الوطني للأحزاب، والذي كان له موقف قوي منذ أول أيام العدوان على غزة.
من جهة تمثل قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال والمقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح والممولان من الإمارات، قوى تملك جغرافيا خاصة على البحر وسلاحاً مرتبطاً بالإمارات مباشرة، وموقفها الرسمي مع فلسطين وغزة بالتأكيد، لكن في الأسابيع الأخيرة وبعد توسع عمليات الحوثي في البحر الأحمر واستهدافه أي سفن تتجه إلى إسرائيل، نشط كل من الانتقالي وقوات طارق، في محاولة تقديم أنفسهم إلى الإقليم والمجتمع الدولي، من حيث الاستعداد لتأمين الملاحة، سعيا للحصول على المزيد من الاعتراف والدعم، فيما ارتبط بعض إعلام هذه المكونات بخطاب تابع لخطاب الممول، أو أجندة مؤدلجة تستجر مفردات صراع الربيع العربي والثورات المضادة، وتسقطه على الموقف من حماس، لكن ذلك لا يعبر عن حقيقة موقف الغالبية العظمى من تلك المكونات، رغم خطابها الذي يقدم خدمة مباشرة للحوثي.
وهناك نسَق من نشطاء يمنيين بارزين، بمختلف توجهاتهم السياسية يمنياً، لكنهم أصبحوا مرتبطين بلجان إلكترونية إقليمية ممولة، ويتخندقون في استضافات متضادة، وكلها لا تعبر عن حقيقة الموقف اليمني، وهذا النسق يمثل حالة جدلية تنعكس بشكل دائم على كل المستجدات سواء قبل حرب غزة وسيستمر لما بعدها.
أما على المستوى الشعبي فانقسم المجتمع إلى اتجاهات عدة في نظرتهم لما يقوم به الحوثي، ويمكن القول إن الأغلبية من مناوئي الحوثي أو الكتلة الصامتة، لم تثق بالحوثي وتقول صراحة إنه يستغل الحدث ليكسب وليقفز مجددًا على مستويات الصراع المحلية سواء مع الشعب بمناطق سيطرته أو مع خصومه من الأطراف الأخرى.
يذهب كثير من النشطاء على مواقع التواصل؛ إلى التقليل من أهمية ما يقوم به الحوثيون من عمليات، ويشككون في دوافع الجماعة، انطلاقاً من معرفة بها، إذ لا ينسى خصوم الحوثيين وحتى من كانوا مؤيدين له سابقاً بأنه نفذ انقلابه على الدولة في ٢٠١٤ بمبرر رفضه فرض جرعة سعرية بسيطة على المشتقات النفطية ليتخذ منها ذريعة لشنِّ حرب توسّع قتلت مئات الآلاف حتى اليوم، وأدخلت اليمن في صراع دموي لا يبدو أن هناك أملاً قريباً في الخروج منه.
وهذا بالضبط ما يثير صدمة واستغراب بعض النشطاء والمراقبين العرب؛ الذين أظهروا حماساً لما يقوم به الحوثيون، ويرون فيه بطلاً، وبالتالي عندما يرون يمنياً غير متحمس أو مشكك، يذهبون إلى تفسير ذلك بأنه تواطؤ مع الاحتلال! فيما الدافع الحقيقي لتلك الآراء لكثير من اليمنيين هي الجراح العميقة والتجربة المريرة لليمنيين مع الحوثيين لسنوات طويلة خبروا فيها براعة الحوثيين في اتخاذ شعارات براقة يدفع ثمنها اليمنيون، فيما يفوز الحوثي وحده ومن ورائه إيران التي وجدت ذراعا يحقق لها مكاسب في المنطقة.
يستعرض كثير من النشطاء والصحفيين اليمنيين على منصات التواصل جرائم الاحتلال الإسرائيلي المماثلة لما قام به الحوثيون، فيعقدون المقارنات، سواء من القصف العشوائي للمدنيين، أو تفجير المنازل، حيث فجر الحوثيون حوالي ٨٠٠ منزل يمني بالألغام، او عدد المختطفين أو المخفيين قسراً والذين يقارب عددهم عدد الفلسطينيين في سجون الاحتلال اذ يصل عدد الذين تعرضوا للاختطاف والاحتجاز في سجون الحوثيين لفترات متفاوتة خلال ٨ سنوات ١٧ ألف يمني، ما يزال نحو ٥٠٠٠ منهم حتى الآن خلف القضبان، وقتل أكثر من 421 مختطفا تحت التعذيب أو الإهمال في سجون الحوثيين، هذا كله إضافة إلى العنصرية التي ينطلق منها الحوثيون باعتبارهم أبناء النبي (الهاشميين) ولديهم الحق الإلهي في الحكم حصراً، ويتشابهون في ذلك مع اليهود في ادّعاء الأفضلية الدينية والاختيار الإلهي.
وبكل حال، لا يرفض اليمني أيّ نيل من إسرائيل، من أيّ أحد، هذه عقيدة مشتركة لـ٩٩% من اليمنيين، لكن في الحقيقة يخشون أن يؤدي ما يقوم به الحوثي -على تواضع تأثيره- إلى ترسيخ وجوده ككابوس على رؤوسهم وحياتهم ومستقبلهم، ولذلك يحتفظون بصورة الحوثي "العدو".
المصدر أونلاين