بائع التوابل

استخدم بائع البهارات ملعقة كبيرة في قياس الكميات المطلوبة التي دونتها له.

ثم وهو يفعل ذلك، ذهبت إلى البرتغال وإسبانيا في القرن الرابع عشر، في تلك العهود كانت الأدوات المستخدمة في قياس التوابل دقيقة وصغيرة بشكل لا يصدق، وكان يصعب على البائع أن يقول "هذه كمية من عندي زيادة" كما يفعل الآن تاجر من أهل الشام. ليس هذا فحسب، بل إن البائع حين يريد وزن الكمية المطلوبة يغلق باب المحل حتى لا تهب الرياح وتحمل معها القليل من ذرات الفلفل أو غيره من التوابل.

كانت التوابل واحدة من أغلى السلع ذلك الزمان وعلى تلك الأرض، لا تتوفر إلا للميسورين الذين يتفاخرون بوضع القليل منها على أطعمتهم. حدث ذلك قبل أن تشق سفن البحارة المحيطات بحثًا عن طريق أقرب للوصول إلى تلك الأودية التي تزرع أشجارًا تجيء منها البهارات.

بالكاد تصل القافلة المسافرة، لسنوات تقطع الصحاري والجبال، يموت من يموت ويصمد القليل ممن تغنيه الحمولة عن كل رحلة قادمة وعن الحاجة للعمل مستقبلًا.

التوابل كانت الدافع للرحلات البحرية، الأساطيل التي نراها اليوم هي امتداد لتلك الأزمنة وليست منفصلة عنها، وبفهمنا لكيف حكمت السلع العالم نكون قد استوعبنا دورة عجلة الاقتصاد منذ أول يوم قايض فيها إنسان أخاه بسلعة أو صيد مقابل سلعة أو صيد أيضًا.

غير أن الحملات البحرية قضت على تلك الندرة، وجعلت التوابل متاحة للجميع مما أفقدها الصدارة وبقيت مجرد عامل تحفيزي أو مدعاة للتباهي، إذ وقف صلاح حسن على بُعد 600 سنة من اليوم الذي قُتل فيه ماجلان بجزيرة مكتان المشهورة بالتوابل وعلى مسافة واحدة من الجدران الأربعة التي تحتوينا وهو يفصح عن سر جودة الوجبة التي أعدها، وقال كلمة أشعلت المعارك وقتلت أشهر بحار عرفته الكتب والخلجان "المقادير"، قالها ومضى في حاله ونحن ننظر نحوه بإبهار وخشية متردد في السؤال.

قبل محسنات الطعام هذه التي أُضيفت بكميات قليلة، كان الملح هو سيد العالم وقد عبدت الجمال الطرق بأقدامها وحصل عمال الملح على ما يشاءون من حرير ومعادن مقابل عرقهم.

وحين وصل محمد الحبيشي، وهو سيناريست يمني معروف له الكثير من الأعمال الدرامية، إلى أطراف أبين بحثًا عن جبال الملح كان العمال يشكون إليه قلة حيلتهم وبوار بضاعتهم، لقد تأخر الحبيشي قرونًا عن الوصول لسماع قصة نجاح مختلفة فيما مضى من الزمن.

أولئك الشاكون يومًا ما، كان أجدادهم لا يجدون الوقت لسرد حكايتهم للقصاصين الذين يرتحلون بين الأمصار.

وصل الحبيشي إلى جبل يُنحت داخله لاستخراج كميات من أجود أنواع الملح، اجتمع الناس حوله وإن كان فعلًا جاء للسؤال عن تجارة لم يعد لها ثمن ولا قيمة.

يومها كان برفقته كاتب آخر ترك المكان وعاد إلى صنعاء فورًا تحمله شاحنة نقل كبيرة.

حلت البركة في الطرق التي كانت تسير عليها الجمال المحملة ببضائع ذلك الزمن، وعبر قرون تغيرت السلع وجميعها كان لها سحر على المكان، وكانت تصبغ المحيط بلونها.

حاليًا استُبدلت التوابل بالتكنولوجيا والجُزر بوادي السيلكون، وتوغل الإنسان في باطن الأرض ليقتلع منها النفط والغاز، وليغلق كل صاحب بئر حقله حتى لا يتسرب بفعل رياح مختلفة عن تلك التي كان يخشاها تاجر بهارات في لشبونة.

ستتغير السلع التي تدير حياتنا والتي تضع اعتبارًا وقيمة للدول المنتجة، لكن شيئًا واحدًا سيبقى ثابتا، "الرحلة".